احمد المهناماذا لو قرر الناس في العراق إهمال السياسيين إهمالا كاملا؟لا يعلقون عليهم اذا تحدثوا. لا يشيدون بهم ولا يهجونهم. لا يتوقفون عند أخطائهم، لا يحللون أفعالهم، لا يرونهم ولا يسمعونهم، وانما يهملونهم اهمالا مناظرا لإهمال السياسيين أنفسهم للشعب. إن إهمال الساسة لكل ما يمت لقضايا الشعب الحقيقية بصلة، ينم عن احتقار للشعب، وعن تنكيل به، وتعذيب له، وتجاوز عليه، والغاء له.
ونتائج ذلك مرة كل المرارة على الحياة، وعلى الفكر.فأما عن الحياة فأبسط وأوضح ما يقال هو أن 90 بالمائة من شباب العراق سيشرد من البلد لو اتيحت له فرصة الحياة الكريمة في بلد آخر. وأما عن الفكر فانظروا ماذا يفعل الساسة بالكلمات. لقد أخرجوا كل كلمة عن معناها، وأزاحوا كل معنى عن الكلمة الملائمة له.يقول القانون وسيرته خروج عن القانون. يقول الدستور وقد جعل منه قماشا يفصله على مقاسه. يتغنى بالوطن ويتعامل معه كفريسة. يتحدث عن الشراكة ويستقتل من أجل الإستئثار. عقله غريزة. نزاهته فساد. حريته ارهاب. دينه زيف. هذه الطبقة السياسية في العراق خيول متكالبة على السلطة والثروة. ووسط هذا البؤس المحموم، والضياع المسموم، والغيظ المكظوم، يبدو العراق وكأنه ليس حقيقة.."انه ايديولوجيا وحسب" كما وصفت حنة ارندت العالم الثالث ذات مرة. أي فكر مفصول عن الواقع، غريب عن الحقيقة، بعيد الصلة بالحاضر، منصرف عن هموم اليوم، وغائب عن متطلبات الغد. يبكي على الماضي وحاضره سباية. يوغل في الوهم كلما حاصره الواقع. يعتنق الاسطورة كلما دعت الحاجة للعقلانية. وينام على الأكذوبة كلما ضغطت عليه الحقيقة.حنة ارندت في كتاب لها "عن العنف" توقفت عند قول فرانز فانون:" ان الجوع مع الكرامة، أفضل من الخبز الذي يؤكل في العبودية". كلام فانون هذا كان شائعا في الخمسينيات. وكان مثيرا للحماسة، وملهما للنضال، مع أنه كلام يسقط في أبسط أختبار. فاي كرامة ممكنة مع الجوع؟ولأن فانون هذا كان أحد قادة الرأي العام في عصر تصفية الإستعمار، ولأن كلامه كان يلاقي استجابة واسعة، ولأن تعويض البؤس بالكلمات كان طريقة التفكير الشائعة في العالم الثالث، قالت أرندت ان "العالم الثالث ليس حقيقة.. وانما ايديولوجية وحسب".لكن لغة ساسة العراق اليوم أسوأ من لغة فانون. تلك لغة كانت فيها براءة طفولة انبعاث العالم الثالث. كانت صادقة وكانت حارة وكانت ملهمة، على كل لاعقلانيتها. أما لغة أصحابنا فهي ميتة مميتة. مشوهة منفرة. كاذبة تفقدك احترامك لذاتك عندما تسمعها: وهي في هذا فقط فاعلة. فاعلة في التنكيل بك، وفي سل روحك.وقد جرت الناس على عادة اهمال أو تجنب الشخص المزعج أو المسيء. فهل بإمكاننا التصرف على هذا النحو مع طبقتنا السياسية؟ لماذا لا نتركها تأكل بعضها بعضا ونلتفت للمفيد؟وهناك الكثير من المفيد الذي يمكن أن يقوم به الشعب اذا فعل ذلك وتفرغ لنفسه. ولعل بين أهم ما يمكنه القيام به هو تشكيل نقابات وجمعيات مستقلة تحمل همومه وتمثل تطلعاته. ان غياب هذه التشكيلات، وهي بالمعنى الحقيقي معدومة، يعني ان الشعب نفسه غير موجود. فمن لا ممثل له لا وجود له، و"ليس حقيقة".
أحاديث شفوية: ليس حقيقة
نشر في: 16 إبريل, 2012: 10:16 م