نجم والي1-2كلما زرت العاصمة البرتغالية لشبونة، تذكرته، وفي كل المرات تذكرت رؤيتي الأولى له وهو يصعد مدرجات شوارع لشبونة العالية بصوت مسموع، يزفر حنقاً شديداً لرجل سمين بقلب ضعيف، وحتى في تلك المرات التي ظننت أن علي التوقف عن تخيله، إذ يكفي أنني التقيت به في عام مضى، فاجأت نفسي، أو لأنني اشتقت للقائه مرة أخرى،
أو كأن العاصمة البرتغالية ارتبطت به على الأقل منافسة لمواطنه العالمي صديقي بالمحنة شاعر التشاؤم فيرناندو بيسوا، أقول فاجأت نفسي بأنني التقي به من جديد في الـ "باريو آلتو" الحي العالي في المكتب الصغير، يختنق من شدة الحر البغيض، وهو يحضِّر وحيداً الصفحة الثقافية في صحيفته الـ "لسبوا"؛ أسمعه مرة أخرى، للمرة العاشرة أو العشرين بعدد زياراتي للمدينة التي نافس حبها عندي بغداد، في لشبونة، في بيته أسمعه يتحدث مع بورتريه زوجته المتوفية، أو أسمعه من جديد وهو يتحاور بموضوعة "الفكرة الثورية"، حيث كان يستجم في منتجع الحمامات المعدنية التي أمر الطبيب له بها مع الدكتور الشاب الذي درس في فرنسا، الدكتور كاردوزو، بالرغم من انشغال البال، بأن في داخل كل واحد منا ليس هناك روح واحدة فحسب، إنما تحالف من أرواح متعددة، وكل شيء له علاقة مع حياة الروح التي تسيطر على الأُخريات وهي التي سترسم اتجاه أفكارنا وسلوكنا. الغريب هو أنني في كل تلك المرات لم أر وجهه أبداً. لأن التخيل، مهما كانت قوته، لا يستطيع اختراع ملامح دقيقة. لكن على الضد من ذلك كنت أفاجئ نفسي في كل مرة، بأنني أعرف تكوينه الجسدي وطريقته في المشي، اللياقة القديمة وحتى بعض من لباسه المغبر، مظلته، نظارتاه، حقيبته تحت الإبطين، والحقيبة القديمة التي كان يحتفظ فيها بترجماته للقصص الفرنسية وببعض الرسائل التي لا تحمل اسم مُرسل فوقها، أمر قد يسمح بتعريضه للخطر أكثر مما كان يفكر به.كم سنة مرت على ذلك ؟ ثمانية عشر عاماً على ما أظن! عندما رأيته في ساعة استثنائية فبدل نوم القيلولة، الذي اعتدت عليه في شبه الجزيرة الإيبيرية، في البرتغال واسبانيا، قررت دخول إحدى دور العرض السينمائية في لشبونة، في ساعة معينة تكون فيه مقاعد السينما فارغة تقريباً، شبيهة بتلك الساعات التي أدمنت فيها على زيارة سينما روكسي في شارع الرشيد في بغداد، لوحدي أو بصحبة أصدقاء توزعوا لاحقاً على أراضي الشيطان الواسعة، ليس بسبب أفلام الجنس التي كانت تُعرض بلا توقف هناك، بل بسبب مكيفات التبريد التي أنقذتنا من حر وبعثية ورجال أمن بغداد، ربما هي النوستالجيا تلك التي جعلتني أدخل تلك الصالة في لشبونة، ولألتقي بالصدفة معه، مع الصديق "بيريرا"، بيريرا كما يدعي ويؤكد، والذي قدم نفسه لي، مثلما قال الكاتب النصف إيطالي والنصف برتغالي أنتونيو تابوكي ـ الذي قدم نفسه إليه ذات مرة، منعزلاً مع نفسه وبشوشاً على الطريقة البرتغالية. إنه شعور غريب ما أزال أتذكره حتى اللحظة هذه، كيف أنني ما أن اظلمت القاعة وانقطع سماع وقع أقدام الرواد القليلين لهذه السينمات نصف الفارغة، حتى سمعت رنين صوت كنت أعرفه مسبقاً من الكتاب "بيريرا يدعي" في نسخته الألمانية (1994) أولاً قبل صدور ترجمته العربية بعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ، صوت أحدهم يروي، برتابة وعدم ثبات، يعيد رتابة أليفة مثل صوت آلة غزل، حتى تبرز القصة من نفسها دون تدخل مصطنع لأحد، مثل ايقاع موسيقي: " يؤكد بيريرا بأنه تعرف عليه في يوم من أيام الصيف..".تحالف الأرواح هو تحالف الوجوه والأصوات أيضاً: ما يؤكده ويحكيه بيريرا، وما يحكيه لنا حكواتي بلا أسم عما قصه بيريرا عليه، بالإضافة إلى الأصوات البرتغالية المتخيلة، والأصوات الإيطالية للفلم وللكتاب، مع الوجوه المتعددة التي هي في النهاية شكلت وجه بيريرا الذي صحيح أنني لم أره أبداً، لكنني شعرت بنفسي أتعرف مباشرة على وجه مارسيلو ماستيرياني مثلما أتعرف على هومبيرت هوبيرت في جيمس ماسون وعلى الكوميساريو مايغريت في جان غابان وبأن كل واحدة من شخصيات "الأموات" والتي قام بأدائها الممثلون الرائعون والصارمون الذين اختارهم المخرج جون هيستون في فلمه الأخير الذي كان نوعاً من الوداع المباغت للحياة وللسينما، ناهيك عن كونه مثالا تطبيقيا ونموذجيا أيضاً يرينا كيف أن الأدب الجيد يستطيع أن يظهر في السينما بصورة أكثر جودة.
منطقة محررة: لقائي الأول مع بيريرا في برشلونة

نشر في: 17 إبريل, 2012: 06:27 م