احمد المهناالابوة الصالحة تأتي من حسن تقدير قيمة الحياة البشرية. فإذا آمنت بأن لا شيء مقدس كالإنسان ادركت معنى انجابك لمخلوق بشري، والمسؤولية الأعظم التي تترتب عليها، وهي باختصار افناء الذات في سبيل ترقية وتكميل الأبناء.
وهذا هو المبدأ في صحة الحياة الإجتماعية. ان الحب والإحترام الأبوي للأبناء له ما بعده من نتائج في المجتمع وتجاه الحضارة. فالطفل الذي ينشأ محبوبا ومحترما يعرف معنى الكرامة، ويتصرف باعتبار الحفاظ على الكرامة واجبا أخلاقيا تجاه النفس وتجاه الآخر. ويصبح احترام الحياة طبيعة ثانية فيه. ومن نسيج هذه الطبيعة تولد القوانين والسلطات في مجتمعه. فلا يتعرض لقسوة التمييز ولا لاستهانة الاستبداد. فمن ينشأ كريما لا يقبل العيش وضيعا.كما أن لهذا المبدأ تأثيره الحاسم على صعيد السلم في العالم. فالناس كانت تنجب كثيرا عندما كانت قيمة الحياة منخفضة. وكان باستطاعة العوائل رفد المعارك والحروب بالأبناء، لأنهم كثيرون، وقابلون للتعويض بالإنجاب. لكن مع ارتفاع قيمة الحياة صارت العوائل تقتصد في الانجاب، وتكتفي غالبا بولدين. وقل بذلك الإستعداد لرمي الأبناء في نيران الحروب. فالندرة تصنع العزة.وكلما تذكرت سيرة الأبوة يقفز الى ذهني روائي روسيا العظيم فيودور دوستويفسكي. فلا أظن رجلا في التاريخ حدق في الأبوة، وشعر بجلالة قدرها ومسؤوليتها كما فعل. وهو صاحب الصرخة المدوية "حذار حذار فإن قتل الأب أكبر جريمة في التاريخ". ولكنه هو نفسه "فكر" في قتل أبيه، أو "تمنى" موته.كان ضحية أب شديد البخل، شديد القسوة، عربيدا أهوج. وقد كتب يوما وهو طالب لأبيه يرجوه ارسال بعض المال بعد أن حرمه العوز من القدرة على شرب الشاي. لم يستجب الأب. وتمنى الإبن في دخيلة نفسه له الموت. ثم اذا بالخبر يأتيه في تلك اللحظة عن مقتل أبيه بأيدي ثلاثة من عبيده الفلاحين الذين أذاقهم المر. وانتهج دوستويفسكي اتجاها معاكسا لسيرة أبيه في كل شيء، من الكرم، الى معزة الأبناء، الى محض الفلاحين الأقنان حبا خالصا. ولكن خسة أبيه ظلت الى وقت طويل، الى أن توقف عن ادمان القمار، تفعل فعلها في دوستويفسكي، وتفقده احترامه لنفسه. كان يبيع كل شيء، ذهب ملابس زوجته، أثاث منزله، من أجل لعب القمار.وكانت مغامرة القمار البائسة نصيبه من إرث همجية الأب. فلم يكن ليمضي معها الى حضيض الهوان لو لم يكن قد أنزله والده اليه. ومن يهن يسهل الهوان عليه. لكن دوستويفسكي ليس اي مهان. كان عبقرية. فطار من الخسة الى النبل، ومن الهوان الى المجد.ورغم ذلك ظلت حاسة الإثم تجاه أبيه تحاصره وتؤرقه العمر كله. كيف فكر في قتله او كيف تمنى موته. كما ظل الإحساس بفداحة نتائج سلوك أبيه تجاه أولاده يعذبه العمر كله. ان الأبناء هم ما صنعه الآباء. والخلاصة هي ما صوره في رائعته الكبرى (الأخوة كارمازوف). الخلاصة هي مملكة العذاب والمرارة واليأس. مملكة الأب كارامازوف الذي ينتهي قتيلا بيد الإبن. تماما مثلما انتهى والد دوستويفسكي نفسه قتيلا بيد "أبنائه" الفلاحين. الخلاصة هي ارتكاب أكبر جريمة في التاربخ.الأبوة هي مصنع المجتمع. يكون كما تكون.
أحاديث شفوية: أكبر جريمة في التاريخ
نشر في: 18 إبريل, 2012: 10:08 م