عمار السوادلا جواب نهائي على مثل هذا السؤال، بلدان الشرق الأوسط بشكل عام تعاني مشكلة حول تاريخ وحدتها وسط تنازع الرغبات والادعاءات والحقائق، بل والذاكرة. بلاد ما بين النهرين أرض تاريخية، أحداث، مدن، مسلات، ملاحم، أساطير، أسماء وزقورات...
غير أنها ليست ملامح العراق الفعلي، التراب ونهران اقل تدفقا من السابق هما ما تبقيا، كل شيء تغير عن ذلك الماضي.العراق الحالي ثلاث ولايات عثمانية، وضعها الانكليز في دولة واحدة. بلد تتحكم فيه هويات فرعية متجذرة وممتدة، النخب الشيعية تعتقد أن حكم العراق حق لها لأنها أكثرية، وأخرى سنية تتوكأ على تاريخها في الحكم، والنخب الكردية تتعامل بمنطق حق تقرير المصير. إنه الخطاب، الثقافي والسياسي، للنخبة المتحكمة بنسق هذه الجماعات البشرية، لكن هل الشيعة والكرد والسنة هم من يريد ذلك، أم أنها قوى سياسية تشتغل على التناقضات بشكل محموم وتستحضر الماضي بمخاوفه وطموحاته؟ قبل سقوط النظام نشأ تيار بين المثقفين "الرافضين للعروبية" بأن العراق ليس جزءاً من العالم العربي إلا بقدر كونه جزءاً من منطقة الشرق الأوسط التي تضم إيران وتركيا. ولهذا رفض هذا التيار أي حديث عن العراق باعتباره جزءاً من المنظومة القومية.. تشكلت عندئذ فكرة تقول بأن العراق امة بمكونات عدة. وبحث المعنيون بذاكرة ما قبل الإسلام لتشكيل هذه الأمة. رد الفعل يمثل أحد جوانب نشوء مثل هذه الفكرة. منذ الستينات وحكم البعث العراقي كان العراق مسرحا لفكرة تقول إنه جزء من "وطن" عربي ومنصهر به. رغم أن البعث العراقي لم ينفذ مثل هذه الفكرة الواهمة كثيرا، إلا انه روج لها ما جعل تاريخ فشله مرتبطا بها. غير إن ذلك المفهوم ذاب، حتى ندر استخدام مصطلح "وطن" عربي، ليحيل مكانه "عالم عربي".كلتا الفكرتين أغمضتا العيون عن الوقائع. تارة تقمع الخصوصيات المحلية كي لا تتزعزع الثوابت "المسبقة الصنع"، وهي ثوابت قومية ووطنية، وتارة أخرى يتم التغاضي عن خطورة طغيان الهويات الداخلية. منذ تسعة أعوام يبدو الصراع بين الهويات الفرعية والهوية الجامعة. الهوية الوطنية هشة، لأنها قفزت على التاريخ، تاريخ العثمانيين، وتاريخ صراع إمبراطورية الأتراك في بغداد مع إمبراطورية الفرس الصفويين. وهو صراع تلبس بلبوس المذاهب. إن الاكثريات العراقية تعتز بوطنها الجامع، لكنه لا يعدو اعتزازا عاطفيا يشل عند اقرب تحد واختبار. الهويات الفرعية بالنتيجة أكثر تأثيرا وعمقا في الجسد الوطني من الذاكرة العراقية نفسها، خصوصا وأنها ذاكرة مقسمة. وكل عملية انتخابات تكشف عن الانقسام الشديد. بمعنى أن المجتمع ما يزال خاضعا للصراع بين ذاكرة قريبة وعاطفة وطنية، وبين هويات شديدة التأثير تقف حاجزا أمام نمو تلك العواطف لتصبح فعلا متكاملا. وتعمق من ذلك وتجذره المؤسستان الدينية والسياسية. حزب البعث أسس للطائفية طويلا باستخدامه الخطاب القومي السني طويلا، والأحزاب الدينية تستدعي شيطنات الماضي المحمل بالكراهية بين الشيعة والسنة، سواء الماضي البعيد المرتبط بالخلاف الديني، أو ذلك الماضي الأقرب المرتبط بالصراع العثماني الصفوي ذي الطابع السياسي. ودور المرجعيات الذي يتجاوز حدود "المساجد"، يبقي على الهويات الفرعية مستفزة. الحلول المطروحة تقتصر بشكل رئيسي على أن تكون بدائل المؤسسات المتحكمة بنبض المجتمع أخرى علمانية تستند للمواطنة كمنصة انطلاق لها. أكيد هذا حل، غير انه صعب الحصول على المستوى المتوسط. لأن الأغلبية العراقية متدينة أو محملة بمخاوف قومية وطائفية. ومخطئ من يرى أن التدين طارئ، هو ظاهرة تمتلك خلفياتها الموجودة. التدين جزء من دورة تاريخية لابد من أن يمر بها العراق، كما يحصل اليوم في العالم العربي، وحصل في إيران سابقا، وبدأ يتبلور في تركيا العلمانية. المهم العمل بشكل جاد لمنع انزلاق العراق إلى انشطارات غير قابلة للعلاج إذا ما توقفت الموجة. أمام العراق طريق طويلة حتى الوصول إلى دولة جامعة يتساوى فيها الأفراد، بمعزل عن هوياتهم، دولة تحترم الخصوصيات أياً كانت، وتستند للفرد كأساس لبنائها. ومشروع الملك فيصل الأول ببناء دولة للعراق واجه العديد من التصدعات بفعل الأيدلوجيات والعسكر، حتى الآن العراق لم يتعرض للتقسيم، رغم الشقاق الداخلي. فهل ستقسمه الطائفية؟ ليس المطلوب البحث عن ذاكرة قديمة بديلة تحط محط الهويات الفرعية. الوطن بصيغته الشرقية يتهاوى أمام كل الهويات الفرعية، قابل للتقسيم مهما صغر، لأنه قائم على الذاكرة والتاريخ، وعادة الماضي مقسم وليس موحدا. الذاكرة قد تجعل الوطن أيضا عدوانيا، كما حصل في حالة الكويت عندما تم غزوها استنادا للماضي. لا يمكن لأي بلد أن يبقى موحدا إلى ما لانهاية إذا لم تتح فيه المساواة في الفرص بين أبنائه، وإذا لم يتحول من لحظة الجماعة إلى لحظة الفرد. ما دام أبناء البلد لا يشعرون بالأمان فيه، فلن يتمسكوا إلى ما لانهاية بوحدته. وللحالة الكردية احتمالات أخرى..
ملفّ الهوية الوطنيّة في مهبّ الهويات الصغرى "4"..الهوية البديلة.. بلد آمن!
نشر في: 21 إبريل, 2012: 12:36 م