شاكر لعيبيلدينا الآن، أو سيصير لدينا، بعد القضية الفلسطينية والمشكلة العراقية، ما قد يُطلق عليه من جديد بالمسألة السورية، وهي تسمية قديمة انبثقت في ظروف سابقة مختلفة كلياً. ثمة في سوريا بوادر تعقيدات تخلط السياسيّ بالطائفيّ بالاستراتيجيّ، وكلها ستزيد من تشابك الأمور في سوريا أكثر من تشابكها الحالي، بحيث لا تلوح اليوم في الأفق حلول لانتهاء الأزمة.
المبادرات الصادرة عن غالبية المثقفين العرب إزاء الوضع السوري تنمّ عن حماس عالٍ للتضامن مع محنة الشعب السوري، والوقوف جنب مطالبة العادلة في الحرية والتعددية السياسية، وإنهاء حكم الحزب الواحد ووقف القمع للتظاهرات الشعبية. وقد سارع جمهرة منهم (اللبنانيون والمصريون والمغاربة...) للانتساب الشرفيّ في التكوين الجديد "رابطة الكتاب السوريين" المُعْلَن خارج سوريا ليكون بديلاً لاتحاد الكتاب العرب الشائخ.لم يبدِ العديد من المثقفين العراقيين حماساً مماثلاً، ومن باب اليأس فضّلوا تجاهل الوضع، ومن باب العقل شدّدوا على الالتباس القادم من المساندة التي قدَّمتها للمعارضة السورية القوى الإقليمية المعادية جوهرياً لمفهوم الثورة. ومن باب المحاججة دان بعضهم بالخفاء والسرّ الطابع الطائفي لبعض أطياف تلك المعارضة وما قد تجرّ البلاد إليه من ويلات مماثِلة لما يشهده العراق. بل أن آخرين أعلنوا جهاراً أن على المثقف العراقي التركيز حصرياً على الوضع في بلاده الجريحة قبل التضامن مع جاره. آخرون ذكّروا وتذكَّروا أن المثقفين العراقيين كانوا متهمين مرتين متواليتين من طرف جُلّ مثقفي العرب وسياسييهم، في العداء للنظام العراقي السابق أو محاباته، ثم بعد ذلك في قبول الاحتلال والطائفية لمجرد بقائهم في بلادهم واستنكارهم للقتل العشوائي المجاني للبشر. وتذكّروا، بمناسبة البيانات التي أصدرها المثقفون العرب في مساندة أقرانهم السوريين، أن لا أحد في العالم العربي كله تقريباً كتب بيان تضامن مع المثقف العراقي لا في زمن البعث ولا في زمن الاحتلال. قد نشاطرهم بعض هذا أو كله، لكننا قد نتوصل إلى نتائج مختلفة.لا يظهر في مثل تلك المواقف تسام على الجرح المحليّ العراقيّ الذي يُعلِّم الحكمة. وهو يتناسى للحظةٍ موقف الشعب السوري النبيل، وليس النظام ولا بالضرورة العديد من المثقفين السوريين، ويغفل عن اعتزاز الشعب السوريّ الجمّ بالشعب العراقي المحكومين كليهما لفترة طالت طويلا بالإيديولوجيا ذاتها. الكل يعرف ذلك قبل "المسألة السورية" ويقوله حتى اللحظة. عدا القلة، لا يبدو موقف المثقف العراقي من المحنة السورية واضحا إذا لم نقل مقبولاً. إذ ليس التضامن مع الشعب السوري تضامناً مع قواه السلفية الفاعلة، وليس الوقوف مع العدل هناك تماهياً مع القوى الإقليمية التي تتبنى مشروعا آخر، غير مُعْلَن، يتجاهل في عمقه معاناة الناس كما فعل على الدوام، لكنه يستثمرها اليوم لصالح أهدافه البعيدة، ولا يعني التقوقع على الذات المحلية الجريحة عدم الترابط العضوي في المنطقة، وما أقرب البلدين لبعضهما، وليس اتهام المثقفين العراقيين جزافاً أو تمنـِّياً أو جهلاً، بالاحتلال أو بغيره، بمبرر لردود الفعل المتشنجة المقابلة، وليس عدم صدور بيان تضامنيّ من طرف المثقفين العرب مع العراقيين، سابقاً وحالياً، بكافٍ لتبرير الصمت عما يجري في سوريا. في المشهد العراقي، الثقافيّ وغير الثقافيّ، لا يُحْسَب حساب كبير لمفهوم التعالي. ليس لكانط شعبية تُذكر في البلد، ولا لهيغل. موضوعياً ما زال الجرح نغّاراً، وما زالت الخمس والثلاثون عاما السابقة تقدِّم نماذجها الفكرية والأخلاقية والمفهومية: ما زال الوعي نفسه سائداً وإن زعم خلاف ذلك، رغم زوال السلطة السابقة. لعلّ المثقف العراقي الذي هو نتاج معقد لتركيبةٍ خاصة، داخل البلاد، أقلَّها، يحتاج إلى بعض الوقت لينظر إلى رحابة الأفق.ما يجري في سوريا مثيرٌ للغضب، وصمت شريحة واسعة من المثقفين العراقيين عنه مثيرٌ للكآبة.
تلويحة المدى: المثقفون العراقيون و"المسألة السورية"
نشر في: 21 إبريل, 2012: 12:50 م