أ.د. محمد حسين حبيباستذكار أول: الزمان (اليوم الخامس عشر من شهر تشرين الثاني من العام ألف وتسعمئة وثمانين ميلادي) المكان (إعدادية الحلة للبنين العراقية/ الشعبة أ – الرابع العام) بسبب الضوضاء الصباحية التي اعتدنا عليها في مقهى أبي ثامر المقابل لمدرستنا لم اسمع جرس المدرسة الصباحي الأول، لكني هرولت مع أقراني الطلبة لحظة رأيتهم يهرولون مجتازاً عرض الشارع الرئيس الذي يفصل ذلك المقهى عن تلك المدرسة برغم أني لم أكمل قضم سندويج لذيذة كانت بيدي اشتريتها تواً من صاحب المقهى الذي كان يصنعها لنا خصيصا ويجلبها في زنبيله الخاص كل صباح..
أجهزت على السندويج بأكملها وأنا أحاول تجاوز النظرات المخيفة لمدير المدرسة التي يرمقنا بها كل صباح مؤنبا إيانا لتأخرنا هذه الثواني القليلة التي تفصلنا عن دقات الجرس المدوية، المهم أنني وصلت الصف وكان المعلم لما يحضر بعد ولله الحمد .. لحظات وسمعنا المراقب يصيح : قيام ، فوقفنا جميعا احتراما وتحية للمعلم بطلعته البهية فحيانا بتحية الصباح طالبا منا الجلوس... في هذه الأثناء لمحت بيد مدرس اللغة العربية – وكان الدرس الأول لهذا اليوم الأدب والنصوص – لمحت بيده كتابين الأول كنا نعرفه هو كتاب الأدب والنصوص أما الكتاب الثاني الذي لمحته فقد كان اكبر حجما من كتابنا ولونه اصفر .. لحظات أخرى وبعد أن تأكد المدرس من نظافة السبورة كعادته قال لنا : - اليوم يا أولادي سنترك كتابنا الأدب والنصوص جانبا للدقائق الأولى من الدرس .. فقد جلبت لكم معي العدد الأول من مجلة الثقافة الأجنبية التي أصدرتها وزارة الثقافة والإعلام العراقية، وهو متوفر الآن في مكتبات الحلة وبسعر مئتين فلس ، وأحث من يستطيع على شرائه. لحظات صمت واستغراب مرت على الجميع فقلت في سري: هو درس جديد ربما أو ربما اختبار لنا من نوع جديد.. واستمر المدرس في حديثه: - أولادي أجد في هذه المجلة وفي مثيلاتها من المجلات الثقافية خير عون لكم على تطوير وتحسين ثقافتكم في مادة الأدب والنصوص وثقافتكم الأدبية خارج الصف أيضا فلا تفوتوا الفرصة عليكم وانتم في ريعان شبابكم. وفجأة فتح المدرس تلك المجلة الكبيرة الحجم وراح يخبرنا بمحتوياتها العديدة من (تقسيم الأدب وأنواعه وطبيعة الصورة الشعرية وقصيدة الغجر لبوشكين وكيف نقرأ الصخب والعنف لوليم فوكنر)، وغيرها من الموضوعات المترجمة حديثا حتى توقف عند السونيتات الشكسبيرية السبع والعشرين التي كانت من ترجمة جبرا إبراهيم جبرا ، شارحا لنا معنى السونيته ومفصلا لنا مكوناتها الأربعة، كالفكرة وتوسيع الفكرة وتناقض الفكرة ثم الحل الحاسم في نهايتها ، وراح المدرس يقرأ علينا السونيته التي تحمل رقم اثنتي عشرة وبحسب المقطع الآتي : ( يفخر البعض بأصله ، والبعض بنير عقله ،ويفخر البعض بماله ، والبعض بشدة بطشه ،والبعض بردائه وإن يكن حديث الطرز بقبحه ،والبعض بصقره وكلابه ، والبعض بأصيل جياده ،ولكل مذهب في العشق لذة تلزمه ، فيها يرى نشوة تفوق كل النشواتأما أنا فنشوتي لست أقيسها على هذه المقتنياتبل لدي ما يفضلها لأنه أفضل ما في الدنيا كلها .هواك عندي أفضل من شرف النسب ،وأغنى من المال ، وأبهى من البرد الثمينة،وأعز من الصقور والجياد الأصيلةوإذا ما امتلكتك فأنني أتيه بأنني اجّل الناس قدراولكنني لأمر واحد أبتئس هو ، أنك قد تأخذ هذا كله منيفتجعلني أتعس الناس طرا) . ص ص : 115- 116 من المجلة .rnاستذكار ثان : الزمان ( الخامس عشر من شهر آب من العام ألفين وثمانية ميلادي )المكان ( قاعة مسرح مديرية النشاط المدرسي في بابل - العراق ) مساء ذلك اليوم كان اليوم الأول لعرض مسرحية (هاملت أمير الدانمارك) لوليم شكسبير من إخراج كاتب السطور ومن إنتاج ودعم ورعاية (المعلم) نفسه، وبإدارة حريصة من لدن مدير النشاط المدرسي الأستاذ والصديق غالب العميدي، وتمثيل نخبة الخط الأول من ممثلي مدينة الحلة واستمر العرض لعشرة أيام، بعد أن استمرت التدريبات مدة تجاوزت الستة أشهر، وكان أضخم إنتاج مسرحي شهدته محافظة بابل العراقية عبر تاريخها المسرحي العريق حتى أصبحت تسمية هاملت البابلي هي التسمية الأكثر شهرة في الصحافة العراقية والعربية وعبر عدد من نقودات مسرحية مهمة بيد نقاد مسرحيين معروفين أمثال : عواد علي وسباعي السيد وياسر البراك وعبد علي حسن وغيرهم . يبدو أن القدر الشكسبيري الذي جمعني مع (معلمي) منذ تلك السونيتات الشكسبيرية الجميلة إلى مسرحية هاملت الكبيرة ما زال يلاحقنا وبطلب متواصل من المعلم نفسه أن نلتقي في مشروع مسرحي حلي عراقي كبير آخر، وسيكون لشكسبير أيضا وعنوانه (تاجر البندقية) مشروعنا القادم والمنتظر إن شاء الله ، وقد بدأنا فعلا بخطواته الأولى منذ مدة ليست بالقصيرة. * شهادة ألقيت بمناسبة تكريم الدكتور حمادي العوادي من قبل جمعية الرواد الثقافية في بابل وفي مجلس الحاج مالك عبد الإخوة يوم الجمعة. والعوادي هو المعلم المقصود في هذه المقالة.
أنا ومعلمي وشكسبير
نشر في: 28 إبريل, 2012: 07:34 م