احمد المهناسعدت بقراءة كتاب (حكايتي مع صدام) للدكتور طالب البغدادي. انه مؤلف صغير، يقع في نحو مائة صفحة،عبارة عن "تقرير" يسرد فيه وقائع مع جرى له عندما كان مدرسا للإقتصاد في جامعة بغداد . وأهم ما فيه انه "تقرير" خالص، لا مكان فيه للمخيلة، ولا للتحليل، ولا للاستنتاج. الوقائع كما جرت، ثقيلة، يابسة، مجردة من الأحكام والعاطفة و"الاسلوب".
كان البغدادي قد ناقش في احدى محاضراته أمام الطلبة عام 1976 مقولة اقتصادية ظهر ان صدام قد رفعها للتو لتكون "شعار المرحلة الجديدة"، وهي "من لا ينتج لا يأكل". ولم يكن البغدادي على علم بذلك. كل ما في الأمر انه كان يحاضر في "مادة الدخل القومي ودور النقود في انتقال مفهوم الناتج القومي الى مفهوم الدخل القومي، بواسطة توزيع مكافآت الإنتاج كل بحسب مساهمته في عملية انتاج الناتج القومي".ولاحظ بعض طلبة الصف ان موضوع المحاضرة يفند "شعار المرحلة". وبصم الأستاذ على هذا الاستنتاج. ومن هنا بدأت حكاية البغدادي مع صدام، فقد أرسل بطلبه، و"ناقشه" أمام بعض زملائه اساتذة قسم الاقتصاد وبعض طلبة القسم، في "مقدمة" ستقود الى ما بعدها من رحلة في الطرد من العمل والتحقيقات والاهانات والتعذيب والتوقيف والمحاكمة والسجن واطلاق السراح ثم التوقيف ثانية ومن بعده المراقبة والملاحقة.والحكاية تبدأ من قدرة الرجل الأكاديمي على مناقشة صدام بكرامة، وتنتهي بأن يفرض عليه تقليد نباح الكلاب مرتين يوميا في سجون المخابرات. انها حكاية إحناء قامة، واذلال كرامة، وتبديد طاقة، وتصفير آدمية.وعلى فداحة هذه المأساة يبدو الرجل "محظوظا"، لأن سمعته الأكاديمية حركت منظمات حقوقية دولية، فأنقذته من المصير المحتوم. هذا يمكن أن يقال. فالحياة أكرم من الموت. ولعل البغدادي قد وفى دينا تجاه الحياة، وتجاه بلده، وتجاه التاريخ، من خلال هذا "التقرير" الذي هو في الجوهر رواية مقتل وطن، رواية قتل الدكتاتور للوطن.والأوطان معرضة على الدوام لتكرار المقاتل اذا لم تدون تاريخها، وتخضعه للمساءلة والفحص والدرس والتحليل. وهناك أمم تعيش في التاريخ. منشغلة بصراعاته، مأخوذة بقيمه، مسحورة بوقائعه، ترى كل شيء بعيونه ومناظيره. وهذه أمم لا تاريخ لها لأنها عائشة في التاريخ، لم تضع بينها وبينه مسافة، ولم تنفصل عنه انفصالا كافيا لدرسه وفهمه، لأنها مازالت جزءا منه، تكره وتحب، تقاتل وتسالم، وفقا لمذاهبه ورؤاه.وأقل الأمم إنصافا للتاريخ هي الأمم التي تعيش في التاريخ. وهي بالتالي الأقل إنصافا لنفسها. ذلك أن انصاف التاريخ ليس مسألة أكاديمية وحسب، بل أنها في المقام الأول مسألة انسانية، وأخلاقية، قبل أن تكون مسألة علمية. ففي معرفة الواقع رفع لمقام الإنسانية، كما ان احقاق الحق متعذر دون كشف الحقيقة.ولعلنا نحن العرب في مقدمة هذا النوع من الأمم. ولذلك أصبح تاريخنا أشبه باسطوانة مكررة. يمضي طغيان ويخلفه استبداد. وهكذا يبدو عمل البغدادي استثنائيا. انه صفحة في تاريخ عراق صدام الذي لم يكتب. وتاريخنا العربي كله لم يكتب. لم يكتب وفقا لمناهج علوم التاريخ الحديثة الا ما ندر.وعندما ستبدأ هذه المناهج بالعمل ستدين كثيرا لشهادات "موضوعية" كالتي جاءت في "حكايتي مع صدام".
أحاديث شفوية:"حكايتي مع صدام"
نشر في: 28 إبريل, 2012: 07:43 م