لينا مظلوم التأمل في بلاغة كلمات أطلقها عالم الدين المستنير الإمام محمد الغزالي(الدين يُفسِد السياسة والسياسة تُفسِد الدين) قد يستدعي الإبحار عبر تاريخ من المراجع والبحوث والأمثلة المؤكدة للمغزى العميق والدقيق لهذه المقولة على ممارسي اللعبة السياسية باسم الدين.
استحضار التاريخ- على أهميته- أمر مُتاح للمهتمين بالبحث والمعرفة..إلا انه أيضا يتناسق تماما مع الأحداث المتلاحقة التي شهدتها المنطقة العربية خلال العام الماضي.. بل إن سرعة إيقاع هذه التغييرات قلما تتيح الفرصة والمساحة الزمنية للفهم والإدراك.في تونس هبّت رياح ثورية بداية لما اصطُلح على تسميته ثورات الربيع العربي.. ولأن الدكتاتورية غالبا ما تقترن بالغباء والتبلد السياسي ..فقد جاءت اعتذارات ومحاولات فهم الرئيس التونسي السابق بن علي لشعبه متأخرة- كما هوالحال في جميع البلاد التي انتقل إليها الربيع العربي لاحقا- .. إثر فرار بن علي كان بديهيا أن تعود المعارضة التونسية -التي يُشكِّل التوجه الإسلامي الكتلة الأكبر من تكوينها – من فرنسا ولندن حيث اتخذت ملجأ لها. رغم أن المناخ الأوروبي الذي احتضن المعارضة التونسية أبعدها إلى حدٍ ما عن التأثير السلفي .. إلا أن مخاوف الشارع التونسي لم يشفع في تهدئتها كل رسائل الطمأنة التي بثها التيار الإسلامي تحديدا في ما يخص الثروة التي يعتمد عليها الاقتصاد التونسي وهي السياحة.. بينما التيار السلفي بدوره لم يتأخر كثيرا في محاولات استعراض عضلاته داخل بعض الجامعات ومظاهر الإعلام والفن والثقافة.في مصر تشقّقت الأرض عن كل الخلايا السلفية التي ظلت كامنة سنين تتحين الفرصة..بعد الاطمئنان إلى نجاح الثورة المصرية.. شمرت عن سواعدها بشراسة وعنف.. لتتشكل مع جماعة الإخوان المسلمين- التيار الديني الأكثر تنظيما- أغلبية في برلمان هش معرّض لسحب الثقة منه في أي لحظة.. لكن الشعبية الجارفة التي حققتها هذه التيارات في الشارع المصري.. تحديداً بين التجمعات الشعبية وبعيداً عن المدن، لم يُكتب لها الاستمرار أكثر من سنة .. إذ سرعان ما تبخرت نتيجة ممارسات الكذب والفشل السياسي المُدوّي لكل هذه التيارات التي رفعت الدين شعاراً سياسياً لها.. وتظهر على سطح نفس المخاوف على التجربة الليبية العاجزة عن تشكيل ملامحها النهائية حتى الآن .. وعلى الثورة السورية وهي الأصعب بين ثورات الربيع العربي ..إذ تبدو ملامح التحفز للسيطرة على هذه الثورات واضحة .. وهي - جرياً على عادة هذه التيارات عبر التاريخ - لا تبدأ إلا بعد التأكد من نجاح الثورة.مظاهر التخبط والفشل التي وقعت بها التيارات الدينية بعد استيلائها على الثورات العربية تعيدنا إلى منطقية كلمات الغزالي؛ والغريب أن إخفاق رافعي شعارات الدين في ممارسة اللعبة السياسية يبدو مفاجأة للبعض ممن توقع إمكانية امتزاج الماء بالزيت.. وهو خير ما ينطبق على ممارسي السياسة تحت الشعارات الدينية.مع اختلاف الوضع العراقي نوعا ما –لأن التغيير حدث من قوى خارجية- إلاّ أن تداعيات العملية السياسية التي توالت خطواتها ، اُقيمت أيضا على أُسس خاطئة، مما أدى إلى سلسلة كوارث يدفع ضريبتها المواطن العراقي فلم يتم الاعتماد على أسس بناء سياسي راسخ يُفترض إقامته على دستور وقوانين مدنية وتشريعات تستمد بنودها من المواطنة.التاريخ لم يكتب يوما النجاح لبناء دولة أُقيم بعيداً عن مكونات السياسة التي تعتمد على الانتماء الوطني ونظم ديمقراطية مدنية. بينما تتبنى التيارات الدينية في المقابل الانتماء الديني أولاً، وتطبيق المعايير الدينية في الحكم على الحريات يصل حتى إلى حرية الهواء الذي تستنشقه الشعوب!جوهر التعثرات التي واجهت ثورات الربيع العربي كلها تتمحور حول كلمات الغزالي عن حتمية الفصل بين الدين والسياسة..مما يجعل اصطدام التيارات الدينية –أياً كان توجهها ومصدرها – بصخرة الفشل حتميا ومنتظرا وهي تُقحِم قيمة روحانية تستمد قواعدها السامية من تعاليم إلهية .. وتنحدر بها إلى دهاليز عالم السياسة القائم على قواعد مكيافيللية تتخذ من الدهاء والمناورات والحنكة – غير البريئة غالبا- أسساً لها.الواقع يكشف يوماً تلو الآخر أن خيبة أمل وتمرد الشارع العراقي منذ 2003..والغوغائية الصاخبة التي تعيشها دول الربيع العربي منذ عام.. تقع تحت عنوان يكاد يكون متقارباً - مع اختلاف التفاصيل- وهو فشل حتمي كشف سذاجة جميع (مشايخ السلفية) و(الملالي) حين يمارسون وهم الارتقاء بأطماعهم المغلّفة بالشعارات الدينية البراقة على سلالم السياسة.rn* كاتبة عراقية مقيمة في القاهرة
الرقص على سلالم السياسة
نشر في: 28 إبريل, 2012: 08:23 م