احمد المهنافي الماضي، عندما كانت تنشب صراعات او خلافات سياسية في العراق، كان "المطلوب" من "المثقف" هو أن يتخذ موقفا. وكان الطلب سهلا، وتلبيته أسهل، لأن المثقف، شأنه شأن اي صاحب رأي في البلد، بقالا كان أم عطارا أم مهندسا، عنده موقف سياسي جاهز ومسبق من الأمور.
كانت هناك رفوف حزبية توضع الناس عليها: شيوعي، بعثي، قومي، اسلامي، كردستاني. وأينما سار اتجاه الحزب أو الجماعة سارت "الأنصار" معه. كان الأمر ميسرا.وأظن أن الأمر مازال كذلك بالنسبة الى "المثقف" خصوصا، والى المواطن عموما، في كردستان العراق. ذلك ان "الحركة الكردية" ذات طابع قومي، كان ومازال هدفها هو "التحرر الوطني". وقد عبر هذا الهدف عن نفسه مرة بشعار الحكم الذاتي، وأخرى بالفدرالية، وهذه وذاك تعبيران عن تطلع الى "تقرير المصير"، غايته النهائية هي الاستقلال الناجز لدولة كردية. ان هذا الطابع القومي يسهل على "المثقف" الكردي اتخاذ موقف، اذا ما نشأ نزاع بين اقليم كردستان وبين بغداد.ولكن الأمر ليس على هذه الدرجة من البساطة في العراق العربي. اذ لا توجد هنا قضية قومية توحده. هذه قضية انتهى منها في الواقع منذ تحرر العراق من الانتداب البريطاني، ودخوله عصبة الأمم. وهذا مع ان "العقل العراقي" ظل عائشا "عالة" على فكر التحرر الوطني، رغم تحقق التحرر الوطني في الواقع.ان الاستحقاق التالي للتحرر الوطني هو التحرر الديمقراطي. وقد تأخرت مواجهة هذا الاستحقاق الى ما بعد سقوط عراق صدام. ولكن في لحظة المواجهة هذه انكشف العراق العربي عن قتيل: لا سلطة، لا دولة، لا اقتصاد، لا أحزاب ديمقراطية. وكان كل ما بقي له من قوى اجتماعية يتمثل بالطائفة والقبيلة. وعندما بدأت هذه القوى بالتحرك تبلور الوضع السياسي، في العراق العربي، على صورة الانقسام المذهبي بين السنة والشيعة.وفي هذا الوضع السياسي لم يجد "المثقف" العربي ذو الخلفية العلمانية مكانا. لقد أصبح "خارج التغطية" حسب تعبير عراقي أثير. أصبح غريبا على هذا الاستقطاب وهذا الصراع. لكن ربما وجد هذا المثقف بهذه الغربة نفسه للمرة الأولى. وآية ذلك ان غالبية المثقفين العرب في عراق اليوم خرجوا من الانتماءات الحزبية الضيقة، كما انهم أصلا خارج المعادلة الطائفية، فأصبحوا لذلك "مستقلين".ولعل ذلك "عقد" مهمتهم. بالأمس كانت ملخصة "باتخاذ موقف". اليوم مهمتهم مختلفة. ويمكن ايجازها بكلمة هي "الفهم". فهم مجتمعهم، ومن ثم اتخاذ المواقف بناء على هذا الفهم. وهذه المهمة تنقلهم من الغياب الى الحضور. من غيابهم في الأحزاب الى حضورهم المستقل. وهذه هي مقدمة اللحظة الصحيحة لدورهم في الفهم وفي الإبداع.والحال فإنك لكي تتخذ موقفا عليك أن تعرف مثلا لا حصرا: هل لأبناء الشعب العاديين رأي مفارق لقوى وأحزاب "العملية السياسية"؟ ماذا يريد عرب العراق في هذه اللحظة من تاريخهم؟ الى اي مدى اصبحت قسمتهم بين سنة وشيعة أمرا واقعا؟ هل هذا الأمر الواقع قابل للتغيير وبأي اتجاه؟ واذا اصبح هذا الأمر الواقع دائما فهل يؤدي ذلك الى الفدرلة أم تقسيم البلاد؟والمشكلة هي ان العواصف ليست أفضل مواسم المعرفة، وان الأقدار في بلداننا أقوى من الأفكار.
أحاديث شفوية: عرب وكرد
نشر في: 29 إبريل, 2012: 07:12 م