احمد المهنالا تولد الشعوب ومعها "هويات" جاهزة، مسبقة الصنع، وأبدية. الشعوب مثل الأفراد، تبدأ من نقطة قريبة من نقطة الصفر، ومع توالي مراحل العمر يسجل العداد أرقاما جديدة، تمثل الزيادات في وعي الفرد وثقافته، وصولا الى تكوين شخصيته، وتشكيل هويته.
وكان تشكل العراق كدولة بعد الحرب العالمية الأولى هو نقطة الشروع في تكوين "هوية" وطنية، دينامية أو حية. وجاء هذا التشكيل نتاج عمل قوة أجنبية هي بريطانيا العظمى. "الغرب" كان القابلة التي على يديها تمت الولادة. ولذلك كان هذا الغرب، بطريقة أو اخرى، احد مصادر "هوية" العراق.والجغرافية التي تأسست عليها الدولة لم تكن فارغة من الناس والتاريخ والثقافة. كان كل ذلك موجودا قبل ان ترسم حدود جديدة لدولة جديدة. وكانت لهذه الأقوام الموجودة على تلك الجغرافيا مصادر أساسية وأخرى ثانوية ل"هوية" كامنة وراكدة. هذه المصادر الأساسية هي الامبراطورية العثمانية، والحضارة العربية الاسلامية.الأولى أمضى تأثيرا لأن البلاد كانت خاضعة لها لأربعة قرون، وظلت كذلك حتى هزيمتها في الحرب العالمية الأولى. فالدولة التي نشأت بأيد غربية كانت موادها عثمانية. وكان المصدر الآخر في تشكيل هوية "الأشتات" العراقية ممثلا بالحضارة العربية الاسلامية. فعروبة واسلام العراق هما نتاج تلك الحضارة. ولكن الحمولات الكبرى للحضارة العربية الاسلامية، الممثلة ب"الثقافة العالمة"، كانت قد انتهت بأفول تلك الحضارة، ولم يبق منها سوى تمثيلات اولية مثل اللغة والدين.وكان على الدولة الناشئة، اسوة بشقيقاتها من الدول العربية الأخرى، أن تبدأ مرحلة "إحياء" للثقافة العربية الاسلامية بالعودة الى أزهى عصورها. وكان ذلك الإحياء بمثابة اعلان حرب الماضي البعيد على الماضي القريب، الماضي المجيد ضد الماضي الكسيف.ولكن تلك الحرب كانت عقيدة نخبة أكثر منها ديانة جمهور. فعقائد الناس وطرق تفكيرها وعاداتها وتقاليدها ظلت عثمانية. ان التغييرات السياسية لا تستتبع على الفور تغييرات ثقافية. وهذا غير ان النخبة والجمهور معا بقيا اسيرين للماضي. وكان ذلك الأسر موجها ضد الحاضر الذي يشكل "الغرب" لحمته وسداه. الغرب العدو. والغرب "المعلم".وفي أول هجمة "ثورية" لهذا الماضي تمت الاطاحة بأهم منجزات الحاضر، أو الغرب، في الجسم الاداري للبلاد. فأول ما فعلته ثورة 1958 هو ازالة المؤسسات الديمقراطية غربية الطراز، من ملكية ودستور وبرلمان وأحزاب وقضاء مستقل. وبقي الجيش والبيروقراطية السابقتان في الوجود على الفتح البريطاني للعراق.مع العراق الجمهوري استمر البحث عن "هوية" عراقية. هنا بدأت تنضاف اليها حضارات العراق القديم التي كانت نسيا منسيا. اشتغل الأدب والفن بهذا الإتجاه بدءا من النصف الثاني للقرن العشرين، فشاع تعبير "عراق الحضارات".ولكن في ظل "جمهورية الخوف" انهارت قصور "الهوية" العراقية عن بكرة أبيها، من حضارة عربية اسلامية، الى حضارات العراق القديم، الى حضارة الغرب، وأخذت تتفسخ، في سجون الفقر والرعب، الى هويات فرعية، أقل سماحة، وأكثر شراسة، مما كانت عليه في العصر العثماني. ومع أول فرصة سنحت للتحرر من كابوس جمهورية الخوف بدأ سجناء "الهويات القاتلة" بالعمل. ولعلها دورة بداية جديدة، وانطلاقة مغايرة، في طريق البحث الطويل عن "هوية" منقذة، من نتاج العقل والإرادة في التاريخ، لا صنع المقدر والمكتوب في التاريخ.
أحاديث شفوية: "الهويات"..قصور وسجون
نشر في: 29 إبريل, 2012: 07:50 م