سليمة قاسمودّعت البصرة في شباط الماضي آخر صالات السينما فيها بإغلاق سينما الوطن التي تم تحويلها إلى سوق تجاري (مول) ، ومن المفارقات الغريبة أنه في الشهر نفسه، وبعد أيام قلائل من ذلك التوديع الحزين ، زار البصرة رئيس الوزراء نوري المالكي وطاقمه الحكومي الذي عقد اجتماعه فيها في خطوة عدها الكثيرون إيجابية .
ويبدو أن الحدثين لا يربط بينهما أي رابط لحد الآن، إلا أن حديث رئيس الوزراء أمام طلبة جامعة البصرة هو نقطة الربط ،فقد تحدث عن أمور كثيرة منها "أننا ماضون في مشروع بناء دولة ليست مدنية فقط وإنما حضارية أيضا".حديث رئيس الحكومة وتأكيداته على بناء دولة حضارية ومدنية . والنهج الديمقراطي الذي اعتمدته الدولة الجديدة بعد تأسيسها في 2003 يتنافيان مع ما يحدث على ارض الواقع، فصالات السينما والمسرح تغلق تباعاً وتم تحويل معظمها إلى مولات تجارية أو إلى مخازن للخردة، كما هو الحال مع صالة سينما الزوراء في بغداد، وهي من أقدم صالات العرض في العراق وصالة سينما بغداد، أما صالة سينما الرشيد فقد تهدمت ولم يعد يصلح لأن نطلق عليها مسرحا ،وتحول مسرح ساحة الاحتفالات إلى قاعدة أميركية قبل أن ينتهي الآن ، فيما تحول مسرح الشعب إلى مقر لأحد الأحزاب السياسية . وثمة ما يشير إلى مصير مماثل للمكتبات العامة التي تحول البعض منها بالفعل إلى مطاعم للوجبات السريعة. فالمسارح وصالات السينما تجمع بين المتعة والفائدة وتعمل على خلق وعي اجتماعي حين تنقد الأوضاع القائمة وتحرض الطبقات المضطهدة وتعمل على تنويرها وبالتالي تغيير وعي الإنسان نحو الأفضل، وقد يكون فيلما أو عرضا مسرحيا هادفا أكثر قدرة على إيصال فكرته إلى المتلقي من قراءة كتاب، وهي أمور أدركها النظام المباد حين عمل على تجريد تلك الفنون من قيمتها الفنية العالية فأصبح المسرح تجاريا مبتذلا يضحك على الإنسان لا يضحكه، أما صالات السينما فتعرض أفلاما هابطة تدغدغ مشاعر روادها من المراهقين، لتتحول السينما والمسرح من وسيلة لنشر الوعي إلى بيئة تنتعش بالباحثين عن الكسب السريع حتى ولو كان على حساب الفن ورسالته العظيمة.غلق صالات السينما والمسرح الهادف يقودنا للحديث عن ملف الحريات العامة الذي تمثل في محاولة غلق الأقسام الفنية ( السينما والمسرح) في معاهد عريقة معروفة، رفض عروض السيرك، منع طلبة جامعة الناصرية من إقامة حفلة تخرج، وآخرها غلق المسارح ودور العرض السينمائي التي يرى فيها البعض من محدودي الأفق أماكن للخلاعة ونشر الرذيلة وليست أماكن للترفيه تعمل على تنمية الوعي المعرفي ورفع المستوى الثقافي وتهذب لغة الحوار وتؤكد احترام قناعات الآخرين وتقبلهم. فقدان البنى التحتية للنهوض بقطاعي السينما والمسرح من جديد، تقف وراءه عوامل عدة، معظمها امتداد لما حدث في زمن النظام السابق الذي كان آخر ما يفكر فيه تشجيع السينما والمسرح، وقلة الدعم الحكومي لقطاع الثقافة بعد التغيير، بدليل قلة تخصيصات وزارة الثقافة في موازنة العام الحالي، إضافة إلى عزوف المواطنين عن مشاهدتها بسبب انشغالهم بظروف استثنائية شهدها ويشهدها البلد حتى هذه اللحظة يأتي الوضع الأمني في مقدمتها. وقد حذرت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقريرها السنوي الذي صدر في كانون الثاني من العام الماضي من تحول العراق إلى دولة استبدادية من جديد تكمم الأفواه فيها وتصادر الحريات العامة رغم التحولات الديمقراطية التي تشهدها المنطقة.إغلاق صالات السينما والمسارح يهدد الحركة الثقافية في المجتمع التي لا تقاس درجتها بكثرة الجامعات فيها، ورغم أن جامعاتنا تخرّج آلاف الطلبة سنوياً لكنهم يعزفون عن قراءة كتاب واحد، فالثقافة لا تنتعش بدعم الدولة فقط بل بتبني المجتمع لها. وقد قيل "أعطني مسرحا، أعطك شعبا مثقفا"وأخيراً يحق لنا أن نتساءل كيف تبنى دولة مدينة وحضارية من دون مسارح وصالات عرض ومنتديات؟
حين ودّعت البصرة آخر صالات السينما!
نشر في: 29 إبريل, 2012: 07:53 م