ترجمة : حسين عجة * بيد أن الأشياء سرعان ما أخذت مسلكاً آخر : لقد اصطدم خط بيانك الحياتي بما لم يكن على الحسبان، أي العنف والاعتقال...- اندريه ميكل : لقد وصلت إلى مصر في سبتمبر 1961، وفي نوفمبر من العام نفسه تمّ استدعائي من قبل البوليس. لقد وقعت أنا وبضعة من الفرنسيين بين أيدي ما يسمى الخدمات الخاصة. اتهمونا بالتجسس. من العبث أن أقول الآن بأن ذلك الاتهام لم يكن يستند إلى أي شيء ولا معنى له.
لقد أمضيت ثماني وأربعين ساعة وأنا معصوب العينين، ومن دون معرفة أين كنت، ولا معرفة ما الذي سيفعلونه بنا. لقد استمرت التحقيقات، التي يمكن القول عنها بأنها كانت "مفتولة العضلات" لمدة أثني عشر يوماً. بعد ذلك، كان علينا انتظار المحاكمة، ثم الاعتقال والحبس لمدة ما يقارب الخمسة شهور، من نوفمبر 1961 إلى أبريل 1962. خمسة أشهر لم تتمكن فيها الدولة الفرنسية من إخراجنا من هناك. أثناء ذلك، كانت الحرب الجزائرية قد وضعت أوزارها، ضمن أفق الاتفاقيات التي دشنتها معاهدة "أفيون"، ومن ثم إقامة علاقة جديدة مع البلدان العربية. في النهاية، أوقف عبد الناصر المحاكمة وتمت إعادتي إلى بلدي. لم تطالب فرنسا بتعويضات عن ذلك، عندما رجعت العلاقات الدبلوماسية إلى وضعها السابق. * أتخيل بأن تلك التجربة كانت بالنسبة لك بمثابة انعطاف، ذكرى يصعب نسيانها...- اندريه ميكل : أجل، لقد مرت عليَّ أعوام كنت اقفز فيها من نومي في الليل، لأنهم كانوا اقتلعوا بابي برفسات من أقدامهم... لكن، من جانب آخر، كانت تلك التجربة قد أيقظت وعيي. يدفع السجن المرء نحو التأمل، فأثناء الخمسة شهور تلك أتيح لي وقت كاف لكي أقول في نفسي بأن أفضل المهن هي البحث والكتابة. فبعد عودتي من القاهرة، كانت الأشياء غاية في الوضوح بالنسبة لي، وانطلاقاً من تلك اللحظة تواصلت سيرتي الجامعية بطريقة كلاسيكية : أمضيت عامين في جامعة "أكس" Aix، بعدها، أي من 1964 وحتى 1968 التحقت بالقطاع السادس التابع للمدرسة العملية للدراسات العليا، التي أصبحت في ما بعد المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية. * لقد كانت مرحلة بحوثك على مستوى الدكتوراه. لكنك، بدءاً من الآن، تخليت عن "السينما المصرية" لكي تتفرغ لجغرافيات القرون الوسطى- اندريه ميكل : نعم، لقد غيرت الموضوع. لقد كرست أطروحتي الإضافية (1963) لدراسة عن الجغرافيا العربية - التوزيع الأفضل لدراسة المدن للمقدسي - وذلك أثناء عملي على نص يعود للقرن السادس. أما في ما يتعلق بأطروحتي الرئيسية (1967)، فقد تابعت بحثي ضمن ذلك الميدان الجغرافي الإنساني الشاسع للعالم الإسلامي وحتى منتصف القرن الحادي عشر. لقد كان السؤال المطروح هو : كيف يمكن تحديد مكانة خطاب الجغرافيين في الأدب العربي للعصر الوسيط، وكيف يمكن تأويله؟ لم يكن كتابي المعنون الجغرافية والجغرافية الإنسانية في الأدب العربي، منذ الأصول وحتى عام 1050 سوى اللحظة الأولى من استقصاء طويل لكل صور الحياة، العمل، وطبيعة المجتمع الذي عبرته كتابة الجغرافيين. أعقب ذلك، ثلاثة كتب : "تصور الأرض والغريب" في 1975، ثم "الوسط الطبيعي" عام 1980، و"الأعمال والأيام" عام 1988. في العمق، كان ذلك البحث متواصل على طول خمسة وعشرين عاماً. أما في ما يتعلق بالدراسات العربية، فمما لا شك فيه هنا يكمن ثقل الجاذبية لعملي وجوهر مساهمتي.rn* في عام 1968، بدأ عملك بالحصول على اعتراف واسع من قبل الجمهور. إذ قامت دار نشر "آرموند كولون"، ضمن سلسلة "مصير العالم"، بنشر كتابك "الإسلام وحضارته" (من القرن السابع حتى القرن العشرين): لقد حظي هذا الكتاب باهتمام ملحوظ، واستقبلته الإكاديمية الفرنسية أيضاً بأكاليل الورد؛ لكنك بدلاً من أن تتمتع بتلك الشهرة، ذهبت لكي تدرس في جامعة في طور التكوين وفقيرة إلا وهي جامعة فنسان Vincennes...- أندريه ميكل : آه نعم، على جبهة القتال! ففيها عثرث ثانية على صديقي القديم فوكو، وبقيت أدرس فيها لعامين. بعدها، أي ما بين عامي 1970-1976، درست في جامعة باريس 3، سونسيه، قبل أن يتم تعييني، عام 1976، أستاذاً محاضراً في الإكاديمية الفرنسية حيث بقيت حتى عام 1997، بالإضافة إلى تكليفات أخرى : المكتبة الوطنية التي كنت أشغل فيها منصب المدير العام من عام 1984 وحتى 1987، ومديراً للكولج دي فرنس ما بين 1991-1997. ومع مواصلتي لمحاضراتي، بطبيعة الحال. * وباستمرارك بنشر كمية مذهلة من الدراسات والأعمال: ما يناهز العشرين كتابين ما بين عاميه 1976 و1997، مُضافاً إليها أكثر من عشرة كتب منذ ذلك التاريخ حتى اليوم. هل كانت الإنعطافة الحاسمة قد حدثت بعد عودتك من القاهرة؟ وكيف؟ - أندريه ميكل : عندما عدت إلى مدينة "أيكس" حباني الحظ بلقاء عظيم، ألا وهو لقائي بجورج دبي Georges Duby الذي جعلني أدرك وأقول له كل ما كنت راغباً في القيام به : أن أكون باحثاً، و"أكتب" اثناء البحث، وكذلك إيصال كشوفاتي إلى الطلاب والجمهور، أي التحويل. وكان ذلك هو القضية الجوهرية التي يهتم بها دبي نفسه. من الصحيح القول أنه قد نشأ بيننا، في تلك اللحظة، اتفاق عميق. كان السؤال الذي طرحناه هو : لمنْ نكتب؟ هناك، بطبيعة الحال، المقالات العلمية التي تتوجه
كيف يصبح المرء مستشرقاً؟ .. محاورة مع أندريه ميكل(2-2)
نشر في: 29 إبريل, 2012: 07:58 م