بغداد/ المدىهزمته الأيام ولم تترك له سوى البؤس والدموع ... والرصيف الذي ينام عليه عندما!... هاجمه المرض في قدميه حتى صار شبح العجز يهدده وربما كان اخطر من هذا في انتظاره ... طرده أشقاؤه من رحمتهم وتناسوا ان رحمة الخالق هي الأوسع ... هذه الظروف تلخص حياة السيد جمعة ..
إنها مأساة رجل يبحث عن الحد الأدنى للامان عن عيون تبتسم له وأيدٍ تمتد إليه بالمساعدة، هذا الرجل يعيش في الشارع وإذا زاره النوم لا يجد إلا الرصيف يمد عليه جسده حتى الصباح ... دموعه تحجرت في عينيه من كثرة البكاء ... آلامه صارت مثل شبح يسكن معه جسده يأبى أن يغادره ...أحيانا يتمنى الموت ... لكنه لا يأتي بالمتمنيات ... منذ سنوات ليست ببعيدة بدأت مأساته !... قبلها بشهور قليلة كان جمعة (50 سنة ) يعيش حياة شبه هادئة مع والده في بيت صغير جدا أكل الزمن عليه وشرب ... الابن راضٍ بهذه الحياة ... كافي شرها وخيرها ... كما يقولون، حتى حدثت الهزة العنيفة التي ضربت الرجل واقتلعت من صدره الآهات ... مات الأب الذي كان يشعر بالأمان في ظله ... يشعر بالراحة عندما يتحدث إليه ويفضي اليه ما يكنه بين ضلوعه !.. وفجأة وجد جمعة نفسه في الشارع ... حتى الجدران المتهالكة من شدة الرطوبة وكان الاب يدفع فيها ثمن استئجاره لها لم يعد له الحق في البقاء خلفها ! هكذا ببساطة بدأت معاناة جمعة مع الألم الذي أبى أن يتركه ويرحمه بعض الوقت وكأنها مقدمة لمزيد من الألم والمفاجآت غير السارة في حياة هذا الرجل ! وكان لابد من البحث عن عمل يكون سندا له في مواجهة الحياة التي لا ترحم !.. سألت جمعة كيف اخترت مهنتك فأجاب الرجل بصوت محزن – يائس ... وكأنها نهاية الحياة بالنسبة له ... بعد وفاة والدي كنت محطما ... كان عمري وقتها لا يزال صغيرا ... يمكنه أن يستوعب الحياة ومشاغلها ... اخترت مهنة الصمون ... وجدت نفسي تميل الى أفران الصمون فتعلمتها حتى صرت في عالم المهنة "اسطه" كبير وأحسست بنوع من الراحة والاطمئنان لبعض الوقت لكني اكتشفت أن كل شيء زائف وما الراحة والاطمئنان إلا وهم في عقلي وحدي ... حتى بدأت أرى انهياري بعينيّ الاثنتين ... لكن كيف حدث هذا؟ هنا وصلني صوت جمعة ... كأنه آت من بعيد ... من مشوار مع المرض ... المرض سرق عمره حتى أصبح هكذا وكأنه بين شقي الرحى! المرض كان وحشا يتربص به حتى سكن جسده... ألم رهيب شعر به جمعة في قدميه الاثنتين.. ظنها من اثر الوقوف أثناء مزاولة عمله في الفرن .. ظنها وهماً ... لكن الآلام لا تكذب على صاحبها أبداً فقد تورّمت قدماه بشكل مخيف ... جعلته في هذه اللحظة رجلا آيلا للسقوط ... لكنه احتفظ مؤقتا بحق الخوف والظنون التي سيطرت على عقله ... هنا توقفت وسألته .. هل ذهب إلى احد الأطباء؟ وجاءتني إجابته على قدر خوفه ويأسه ... قال جمعة ... نعم ذهبت ويا ريتني لم اذهب لقد كانت هذه هي بداية النهاية ... لم يكن مجرد ورم حلّ بقدمي الاثنتين ... لكنه كما جاء في التشخيص الدقيق قرحة دوالي بالقدمين ... هنا توقف الرجل بعض الوقت ... كأنه أفسح الفرصة لدموعه ان تسقط من عينيه ... ثم سألني بصوت خفيض ... لم تسألني ماذا قال لي الطبيب بعدها؟ ولم اجب لأني كنت انتظر إجابته ... قال لي .. وحذرني بالإسراع في إجراء عملية وهي الحل الوحيد لإنقاذ قدمي الاثنتين من البتر ... منين أجيب أفلوس العملية وأنا لا املك بجيبي فلساً واحداً؟ وبدأت الأحزان والمفاجآت غير السارة تقسو على حياة جمعة ... كأنها تركت الناس كلها واتجهت إليه وحده ... وألح على بالي سؤال واحد ، أين إخوة وأقارب هذا الرجل ... أم انه مقطوع من شجرة لا قريب ولا أنيس او حتى صديق يقترب منه في محنته؟ ... أشقاء وأقرباء جمعة كثيرون ... لكن لا احد منهم فكر يوما أن يسأل عنه ... أن يعطيه دينارا واحدا أو قميصا يرتديه ... الجميع ابتعدوا عنه ... بسبب مشاغل الحياة ... لكن ليس بدرجة أن ينسى الأخ شقيقه وان يتركه يتألم في الشارع ... وضاعت حياة الرجل في غمضة عين ... تسرب من يديه حلم الزواج والاستقرار مثل عجائب الدنيا السبع ... من حقه أن يحلم بزوجة ... بيت واستقرار ... لكن تحقيق ذلك أصبح الآن ضرباً من الخيال !... حتى غرفة واحدة يسكنها صارت أملاً صعب المنال ... لهذا فهو يعيش في الشارع في منطقة الميدان ... يهيم على وجهه في شارع الرشيد والحيدرخانه ... الجميع يعطف عليه ... يتألمون له ولكن ماذا يملكون تجاهه ... لا شيء إلا المساعدة فهي الوحيدة التي يملكونها !... كيف يعيش هذا الرجل الآن؟ ... أجاب الرجل ... أعيش على صدقات اهل الخير ... ماكو احد يموت من الجوع صدقني أنا انام في الشارع .. لكن ممكن أموت من الحسرة ... من غدر الأهل والأقارب واقرب الناس الي ... كنت أتمنى ان يكون لي بيت وزوجة وأطفال ولكن حل بي المرض اللعين .... وكلما تشاهدني امرأة تهرب مني ... تمنيت أن أعيش في غرفة فوق السطوح داخل محل حتى أتخلص من عض الفئران في الليل الطويل ... أعيش فيها حتى ما يأتي الموت ويأخذ أمانته مني ... هذا حظي من هذه الدنيا ... أصبح بيتي وغرفتي رصيف الشارع !!
مأساة رجل ينام على الرصيف!
نشر في: 29 إبريل, 2012: 08:44 م