بغداد/ المدىبينما كان الناشط السياسي البلغاري (غورغي ماركوف) ينتظر في موقف الحافلات على طرف جسر واترلو الشهير الذي يمتد فوق نهر التايمز في لندن شعر بألم مفاجئ في مؤخر فخذه الايمن ، وكأن حشرة لدغته ، التفت خلفه فرأى رجلا يلتقط مظلة من أرضية الرصيف ويهرول مسرعا عابرا الطريق الى الجهة المقابلة وركب سيارة اجرة ، وسرعان ما انطلقت به ليختفي عن الأنظار . حدث ذلك صباح يوم السابع من أيلول عام 1978 وكنت زائرا سياحيا في لندن حينها ،
وما زلت اذكر كيف اهتمت وسائل الإعلام بالخبر ، كان ( ماركوف ) الذي يبلغ عمره 49 سنة متوجها إلى عمله في محطة الإذاعة البريطانية ( بي بي سي ) بعد أن أوقف سيارته في محطة للسيارات قرب جسر واترلو ، وكانت تلك طريقته المعتادة كل صباح . كان ( غورغي ماركوف ) صحفيا واديبا بلغاريا يقيم في لندن منذ عام 1971، بصفته لاجئا ومعارضا سياسيا ، وقد غادر بلاده بلغاريا عام 1969 الى غير رجعه ، فرارا من النظام الشيوعي الذي كان يضيق عليه الخناق بسبب طبيعة كتاباته المنتقدة . استقر به المقام بداية في ايطاليا ثم تمكن من الوصول الى بريطانيا ، حيث تعلم الانكليزية وعمل في كل من الإذاعة البريطانية ودويتش فيلا ، كما عمل في ( راديو أوروبا الحرة ) الذي كان يبث برنامجه المعارض والمنتقد للنظام في بلغاريا على الموجة القصيرة . اثار ذلك البرنامج استياء الحكومة البلغارية ما جعل رئيس الحزب الشيوعي ( ثودور زيفكوف ) يعلن لرئيس مخابراته رغبته في اسكات ماركوف ، ولم تكن مصادفة أن يتوافق ذكرى عيد ميلاد هذا الأخير تاريخ تلقي ماركوف الكبسولة القاتلة ( السابع من ايلول ) . لم يتوقف الالم بل استمر دون تغير حتى بعد وصول ماركوف الى مقر عمله ، تفحص موضع الألم على فخذه فرأى بثرة حمراء صغيرة ، فاخبر احد أصدقائه عن الحادثة الغريبة . شعر ماركوف لاحقا بارتفاع درجة حرارة جسمه ، فذهب الى مستشفى سانت جورج بلندن ، حيث ادخل للعلاج ، ولكنه ما لبث ان غاب عن وعيه وساءت حالته الى ان توفي بعد ثلاثة أيام بتاريخ 11 أيلول 1978 . ولما كان ماركوف قد روي للأطباء ما حدث ، وانه يشك في أن رجال المخابرات البلغارية يسعون الى تصفيته بواسطة السم ، وانه سبق وان تعرض لمحاولة اغتيال سابقة ، فقد تولت شرطة (سكوتلانديارد) التحقيق في ظروف وفاته ، واحيل الجثمان الى الطبيب الشرعي الذي اكتشف وجود كبسولة معدنية صغيرة قطرها اقل من 2 ملم مغروسة في فخذه ، وبفحص الكبسولة المعدنية تبين ان بها ثقبين صغيرين يقودان الى تجويف يحتوي على اثار مادة ( الريسين) السامة ، كما وجد بفوهتي الثقبين آثار مادة سكرية معدة خصيصا لإغلاق الثقبين مؤقتا ، ثم تذوب في درجة حرارة 37 مئوية، عندما تدخل الكبسولة إلى الجسم ، فتسمح للمادة السامة بالتسرب الى خارج الكبسولة والقضاء على الضحية . لم يكن من السهل العثور على سم الريسين داخل الجسم ، وقد استغرق ذلك عدة اسابيع من البحث والتحليل والدراسة وقدرت كمية الريسين القاتلة بمقدار (450) ميكروغرام فقط . علمت شرطة ( سكوتلانديارد ) لاحقا أن منشقا بلغارياً آخر اسمه (فلاديمير كوستوف) نجا من محاولة اغتيال بالطريقة نفسها تعرض إليها في إحدى محطات متروباريس فرنسا قبل عشرة أيام من حادثة مقتل ماركوف. استأصل الأطباء كبسولة مشابهة من جسم كوستوف الذي تسبب السم في ارتفاع درجة حرارة جسمه ولكنه لم يمت ، لان الكبسولة لم تفرز كل محتواها من الريسين نتيجة خلل في التصنيع . مرت سنوات عديدة قبل ان يعلن اثنان من رجال المخابرات السوفييت أن تصفية ماركوف تمت بالاشتراك مع رجال البوليس السري البلغار ، وانه وقع الاختيار على سم الريسين بسبب قدراته العالية على الفتك من جهة، وصعوبة العثور عليه معمليا في جسم الضحية ، مما يجعل الوفاة تبدو وكأنها حدثت لأسباب طبيعية ، كما أكد ان مظلة خاصة مزودة بآلية تشبه آلية البندقية استخدمت في إطلاق الكبسولة من مسافة قريبة . ويستخلص سم الريسين من قشور بذور نبات (الخروع) وتختلف درجة فتكه حسب الطريقة التي يصل بها إلى الجسم، واقلها خطرا إذا اخذ عن طريق الفم وأشدها خطورة إذا اخذ عن طريق الحقن او الاستنشاق ، ولا يوجد مضاد فعال لهذا السم . ولذلك يكتفي الأطباء بإعطاء المريض السوائل عن طريق الوريد ومعالجة ارتفاع درجة حرارته وسائر الأعراض الجانبية . يقول الأطباء المعالجون انه لولا المعلومات التي حصلوا عليها من القتيل ، من حيث تعرضه لمحاولتين سابقتين ، وانه يشك في الرجل الذي كان يحمل المظلة ، لما جرى تشريح الجثمان ولما اكتشف سبب وفاته ، لولا ذلك لاعتبرت وفاته طبيعية بسبب عدوى فيروسية كان من أعراضها ارتفاع درجة الحرارة . وقد كشف الصحفي البلغاري (خريستو خريستوف) أن قاتل ماركوف هو قاتل مأجور يعمل مع البوليس السري التابع للمخابرات البلغارية ويرمز له باسم ( العميل بيكاديللي) العميل بيكاديللي هو من أصل ايطالي واسمه الحقيقي (فرانشيسكو جولييتو) جندته السلطات البلغارية عندما قبض عليه عام 1970، على الحدود البلغارية محاولا تهريب شحنة من المخدرات وكمية من النقود . ويقول خريستو خريستوف انه لم يقابل هذا العميل السري بعد عام 1990 ويعتقد انه ما زال طليق السراح . أما الشخص الذي اصدر أوامر تصفية (ماركوف) فترى مصادر عديدة انه وكيل وزارة الداخلية إبان الحكم الشيوعي في بلغاريا آنذاك ( ستويان سافوف) وقد توفي منتحرا قبل ان يمثل للمحاكمة عن دور
المظلة السامة!
نشر في: 29 إبريل, 2012: 08:45 م