احمد المهناالشباب حلو بحلمه مر بجهله. وبما أنني عقدت حلفا دائما مع الشباب فلم ينقطع حلمي ولا زال جهلي. وانطلاقا من هذه "الايديولوجيا الشبابية" فكرت يوما بانتاج عمل تلفزيوني عن الرئيس السوري الخالد شكري القوتلي. كانت الفضائيات "طاكة" توا، وكانت الناس مأخوذة بهذا المخلوق الجديد.
وتوكلنا على الله وبدأنا درب الوساطات من أجل الحصول على موافقة دمشق. لكن سرعان ما اصدمت عقيدتي الشبابية بصخرة الواقع. رفض الطلب وفشلت كل الوساطات. كان القوتلي (1891 – 1967 ) قد شبع موتا قبل عقود على تقديمنا الطلب. ولكن لدى الحكومات التسلطية والشمولية مشاكل لا تحل مع التاريخ. فهو غالبا ما يعريها ويخزيها اذا ما سمحت بتوجيه الأنظار اليه، ولذلك فان أحسن ما تفعله هو أن تسد بابه وتستريح.ولدى القوتلي الكثير من الأعمال الفاضلة التي تفضح أضدادها من الأفعال الهابطة لخلفائه. ولعل ابرزها هو انه أول رئيس في التاريخ العربي الحديث يتنازل طواعية عن الحكم. لقد زهد برئاسة الجمهوية من اجل حلم الوحدة العربية. ومثل هذا العمل خيالي بمنظار حكومات الأبد. والرئاسة من بعده اصبحت مدى الحياة ولو كلفت تمزيق الدولة شعوبا وقبائل متطاحنة.ان للقوتلي تاريخا غنيا ومجيدا امتد عبر تلاثة عهود، العثماني والاستعماري والاستقلالي. ولكن ظل اكثر ما يشدني اليه، أو اتوقف عنده كلما تذكرته، ما قاله لعبد الناصر وهو يتنازل له عن حكم سوريا التي ستصبح جزءا من "الجمهورية العربية المتحدة". مباشرة، بعد توقيعهما اتفاقية الوحدة عام 1958، التفت الى عبد الناصر باسما وقال له:" اريد أن اسلمك ثلاثة ونصف مليون سوري نصفهم أنبياء والنصف الآخر زعماء".وتقبل عبد الناصر "المزحة" ورد عليها بالمثل سائلا القوتلي:"لماذا لم تخبرني بذلك قبل توقيع الاتفاق؟".وليس هناك شك بأن الرجلين كانا يؤمنان بما فعلاه من وحدة كل الايمان. ولكن أغلب الظن ان ما كان بالنسبة لعبد الناصر مجرد "مزحة" كان أكثر من ذلك عند القوتلي. فالأول يتحدر من ثقافة الايمان بالفرعون، حيث الرئاسة شبيهة بالثوب الالهي. والثاني يتحدر من ثقافة لم تعرف للزعامة مثل ذلك المقام. ففي تسعة شهور من عام 1949 وقعت ثلاثة انقلابات عسكرية في سورية، أولها أطاح بالقوتلي نفسه. مثل هذه البلبلة بعيدة عن تاريخ مصر ولا مكان لها في خيال مصر.وكان أفضل ما فعله حافظ الأسد هو وقف تلك المسخرة الطويلة. كان الاستقرار الذي أرساه عملا عظيما. ولكنه عاد فطعنه بجرثومة قاتلة للاستقرار. فقد حاول ان يجعل نفسه وعائلته مصدر وحدة البلد واستقراره. حاول أن يكون فرعونا في بلاد "أنبياء وزعماء". أراد أن يكون ملكا في بلاد جمهورية. أهمل الممكن، وهو بناء شرعية جمهورية حقيقية، ورمى ثقله على المستحيل، وهو الباس الجمهورية ثيابا ملكية زائفة.الدكتاتور مر بحلمه مر بجهله. فالحكم بالقوة نار حارقة لإمكانية ولادة أو تكوين أي شرعية. وغياب قيادة شرعية للشعب هو سبب كل مأساة سوريا اليوم. وهكذا مع أول هزة تكشف قناع الاستقرار عن اضطراب، الوحدة عن تمزق، ومزحة القوتلي البيضاء عن مأساة سوداء. فداعي الأنبياء المسلحين والزعماء المحمومين يجول سوريا اليوم مهددا بأن نرى قفارا ما كان يوما ديارا.
أحاديث شفوية : أنبياء وزعماء
نشر في: 29 إبريل, 2012: 10:28 م