نجم والي1-2حتى فترة قريبة، لم يكن يُعرف أن تلك المرأة، التي بدت جميلة في صورها القديمة المنشورة في كبريات الصحف الأوروبية، كانت وراء عملية إنقاذ أخيها الشاعر، الذي يُعد أحد مؤسسي الحداثة الشعرية في العالم. لم تكن جميلة فقط، إنما كانت فخورة أيضاً، وما زالت تعتريها مشاعر الاعتزاز ذاتها، عندما تتحدث في المقابلات الصحفية عن أخيها المشهور.
كان شاعراً وبطلاً في الوقت نفسه، وعندما ضاقت به الأمور في ذلك الوقت، كان على الأخت الصغيرة أن تفعل شيئاً جنونياً، لكي تنقذ ـ ربما ـ حياته. ولكن ما فعلته في تلك الأيام، كان يجب أن يظل سراً، لم تشأ أن يعرفه أحد، "كنت باردة الأعصاب جداً وجسورة أيضاً"، تقول السيدة العجوز ميلدا كاليونكو (في نهاية السبعين من عمرها الآن) في آخر مقابلة صحفية لها، وهي تروي قصة هروب أخيها. في 17 يونيو 1951 رأت عند أحد سواحل اسطنبول الأخ الأكبر للمرة الأخيرة، في قارب بخاري صغير، وهو يغادر تركيا. بعد ذلك، نقلت الصحف العالمية الخبر: الشاعر التركي ناظم حكمت أصبح طليقاً. فقط، الصحيفة التركية "حريت" اتهمت السفير البلغاري بأنه كان وراء عملية تهريب ناظم حكمت.السيدة العجوز التي ما تزال تملك وجهاً طفولياً، ضحكت عند قراءتها ذلك الخبر لأنها تعرف كيف أن السادة الجالسين في أنقرة كانوا يفكرون بشكل خاطيء. بل أنها ما تزال تحتفظ بالصحيفة القديمة في بيتها عند الجانب الآسيوي من اسطنبول، في الحي الذي عاش فيه أيضاً ناظم حكمت، مثلما ما تزال تحفظ ذكرياتها عنه مثل كنز، لأنها لم تشك يوماً بقيمة أخيها ناظم حكمت الذي جدد الشعر التركي في القرن العشرين وكتب قصائد وجدت مكانها في الأدب العالمي. أبياته الشعرية التي تقول "العيش، وحيداً وحراً، مثل شجرة، وبتآخي مثل غابة، هو ما نشتاق إليه"، يعرفها كل تركي، مقروءة أو مكتوبة في البيانات السياسية أو في رسائل الحب. لم ير ناظم حكمت وطنه مرة أخرى بعد الرحلة السرية تلك التي ساعداه فيها أخته وزوجها السابق، فقد أسقطت حكومة أنقرة عنه وبعد هروبه مباشرة الجنسية التركية لأنه لم يحرر الشعر من قيوده فقط إنما لأنه كان "شيوعياً" حالماً تمنى لسكان بلاده الحرية. لذلك كان على "خائن البلاد" و"ملطخ العلم" أن يموت في منفاه، ولينتهي إلى قبر في موسكو، حتى أن كل الدعوات المقدمة للسلطات بإرجاع رفاته إلى أراضي الأناضول باءت بالفشل: ليست هناك حكومة تركية تجرؤ على رد الاعتبار له، مهما كانت الشعارات التي ترفعها! وحتى في ذكرى مئوية عيد ميلاده قبل أربع سنوات، لم تنجح تركيا الرسمية كما وعدت قبل الإحتفال وحتى اليوم، بعقد صلح مع ابنها المشهور عالمياً، لأن ليس هناك أحداً في أنقرة يملك شجاعة الاعتراف بالخطأ رسمياً، حتى ولو كان الخطأ قد تقادم عليه الزمن!وبالرغم أن إعادة ذكراه لم تتوقف في السنوات العشر الأخيرة منذ أن بدأت تركيا تستعجل وبإصرار انضمامها للاتحاد الأوروبي، إذ من النادر أن يمر يوم في تركيا، ولا تُعرض فيه مسرحية لناظم حكمت، أو دردشة تلفزيونية تتعلق بشخصه، كأن أن هناك حركة إعادة إحياء قوية للمتمرد الملعون، الذي هو بمثابة ماركة أوروبية تستعين بها تركيا (كانت وزارة الثقافة التركية، مثلاً، قد كلفت قبل عشرة أعوام الملحن التركي المشهور فاضل ساي أن يلحن عملاً موسيقياً اسمه "ناظم"، والذي حضره في مئوية الشاعر قبل خمس سنوات رئيس الدولة التركية نفسه)، إلا ذلك لا يمنع أن تقع الجهات الرسمية في بعض التناقضات. فعندما تسلم البرلمان التركي قبل تسع سنوات 500000 توقيعاً تطالب بإعادة الجنسية للشاعر المطرود، في عام الاحتفال بمئويته والذي أطلق عليه اليونسكو "عام ناظم حكمت"، ارتفع صوت الحزب القومي الحاكم، ليحتج بأن "شبح ملطخ العلم هذا ما زال على قيد الحياة وما زال مجرد ذكر اسمه يشكل خطراً للرأي العام". أنه لأمر غريب بالفعل، ربما على المرء أن يكون تركياً، لكي يفهم هذه المشاعر المختلطة من التبجيل والاحتقار التي تواجه بها تركيا أكثر أدبائها شهرة. في 1951، عندما سحبوا الجنسية التركية عن ناظم حكمت، الذي كان يرى نفسه "وطنياً" أيضاً، لم تكترث الأخت التي تصغر أخاها بـ 25 عاماً، للقرار الحكومي، لأن "ناظم كان روحاً عالمية".بيت ميلدا هو مزار للصحفيين القادمين من مختلف بقاع العالم في السنوات الأخيرة. وما أن يدخله المرء، حتى تواجهه مباشرة، مجموعة من الصور: بورتريه معلق على الحائط، رسمه ناظم ذاته، إلى جانبه صورة ملونة، رسمها ابنه الوحيد، محمد الذي يعيش في باريس. بالإضافة إلى ذلك عُلقت لوحة زيتية رسمتها أم ناظم، جليلة التي بعد الانفصال عن زوجها حاولت إعالة العائلة عن طريق الرسم. الأب تزوج مرة ثانية. ميلدا هي ثمرة الزواج الثاني.
منطقة محررة: عندما تطرد الأوطان شعراءها
نشر في: 1 مايو, 2012: 07:21 م