عبدالكريم العبيديصورة قديمةليت الطريق الى محافظات العراق، شمالا أو جنوبا لا يبدأ من كراج النهضة. من هذا المكان الذي طالما وصفه العراقيون بالغصة المزمنة ومرارة الحروب والضياع والأسى. فكم من رجل وامرأة وشقيق وشقيقة وزوجة وابن وبنت، كم من كل هؤلاء ودع، ولآخر مرة ابنه الذاهب الى جبهات القتال في حرب الثمانينيات العقيمة ولم يره ثانية؟،
كم من تشرد وبكى وفارق أهله ومحبيه في هذا الكراج؟. وكم منهم من سهر ألف ليلة وليلة على أرصفته وأجبر داخل مقاهي الكراج الموبوءة والمكتظة بالنشالين والمتشردين والمعتوهين والشقاوات والسكارى؟ على مشاهدة "كاسيتات الفيديو" وأفلامها المليئة بحفلات الرقص والجوبي الماجنة التي يقيمها الأثرياء. وكم من "الناجين" من تلك الحرب اللعينة، نسي أو ينسى نهارات وليالي البؤس التي قضاها في باحة هذا الكراج طيلة عقود الحروب المليئة بالأسى، يوم كانت الحياة معسكرة ومهيأة لمزيد من المغامرات الطائشة والويلات والنكبات؟.لا يمكن لأحد من هؤلاء الناجين أن يقشط من ذاكرته المكتظة بالويلات والنكبات وأعوام البؤس "سوداوية" كراج النهضة ومآسي تاريخه اللا تحصى. فهو ذكرى مريرة تأبى المغادرة أو التقليل من سخونتها وآلامها. فمن ينسى باعة أحذية الجيش والرتب العسكرية وصباغي الأحذية وباعة الشاي و"الفلافل" والبيض والقيمر؟، كانت أرصفة الكراج والجزرات الوسطية تمثل فنادق من الدرجة "الأرضية". تؤوي جنودا جاؤوا من شتى المحافظات والأقضية والنواحي للالتحاق الى عوالم الملاجئ والقذائف والراجمات والخنادق والقصعة وتناكر الماء وسيارة الحانوت وأكداس العتاد، و "تعب حتى الحديد وما تعبتوا"!.سينغمر حتما في ذكرياته ويلتصق بمونولاجاته الذاتية/ الجمعية ويسوح مع أعوام عمره التي ضاعت هباء وينوح بصمت، فما زالت أصوات السائقين ونداءاتهم تعشش في أذنيه "بصرة عل ناصريه، بصره عل عماره، بصرة بالدولفين، بالجنح، بالبهبهان، بالسلبرتي، بالكابرس، بالسوبر، بالمنشأة بالريم"، وسيرى دون شك أن كراج النهضة هو سجل متهرىء لذكريات الذاهبين الى مطاحن الموت قديما. وهو تاريخ مؤطر بأزيز الرصاص وهدير الدبابات ودوي المدافع. صورة "جديدة"أخيرا تسللت الحافلة الصغيرة التي كانت تقلنا من داخل فوضى الكراج وصخبه. سيارات كبيرة وصغيرة في تشابك مقيت. تلول من النفايات. عشرات من المتسولين وباعة الصحف والمجلات والحلوى والهدايا الرخيصة. وبعد أن تم تفتيش حقائبنا خرجت الحافلة من الكراج لتتخلص من أول مخاطر الرحلة، وهو احتمال قوع انفجار في داخل الكراج كما حصل مرارا طيلة الأعوام الماضية.قال السائق: "صلوا على محمد وآل محمد" فصلى الركاب جميعا بهلع وظلت أنظارهم مشدودة الى الطريق.كانت أغلب الشوارع مغلقة بسبب حدوث عدة انفجارات في ذلك الصباح، فاضطر السائق الى التسلل من بين عدة أحياء سكنية وشوارع فرعية وهو ما أثار الهلع في نفوس المسافرين ومطالبتهم بعدم الابتعاد عن الشارع الرئيسي خشية أن يذهب بهم الى إحدى العصابات مثلما حصل للعديد من المسافرين!.ولكن السائق عرض المزيد من التطمينات. وبدا وكأنه ملم بهذا النوع من المخاوف والطلبات التي يبديها ركاب سيارته منذ خروجه من الكراج.لم يكن ركاب الحافلة من أهالي محافظة واحدة. بعضهم من سكنة العاصمة بغداد. وآخرون من أهالي البصرة والعمارة. وكان اثنان منهم يعتمران الكوفية والعقال ويجلسان الى جانب امرأة عجوز بدت خائفة جدا وتكثر من الأدعية والسور القرآنية، خصوصا حين يسارع السائق الى إيقاف السيارة الى يمين الشارع لإفساح المجال لعبور رتل عسكري. أو حين تزعق منبهات سيارات الشرطة والجيش مطالبة السائقين بإفساح المجال لعبورها.وعند أول سيطرة عسكرية توقفت السيارة وطلب أحد أفرادها من الراكبين جميعا إبراز هوياتهم. وحين اطلع على لقب أحدهم سأله بوقاحة: "أنت لقبك"......" اشعندك رايح للبصرة!؟. فأجابه الراكب: لحضور مجلس عزاء لا أكثر. ثم تساءل مندهشا: ولكن لماذا تسألني!؟. فرد عليه العسكري بحدة: "مو شغلك!!".كانت هذه المساءلة الغريبة هي مقدمة لحوار ساخن نشب بين الركاب من لحظة اجتياز السيارة للسيطرة، تناول المشهد العراقي بكل فصوله وتداعياته. وأظهر وجهات نظر متقاطعة ومتشنجة أحيانا، مما اضطر السائق الى مطالبة الركاب بالصلاة على "محمد" مرة أخرى. في محاولة منه لتخفيف حدة التوتر وتنقية الأجواء، فردد الكثير منهم: "الله هم صلي على محمد وآل بيت محمد".ولكن ما زاد من هلع الركاب وقلقهم هو حصول حادث اصطدام بين سيارتين، تحطمت أجزاء منهما وتناثر الزجاج على أرضية الشارع، كانت احداهما تقل عائلة عراقية. وأدى الحادث الى مقتل وجرح عدد من أفراد العائلة.بعد دقائق، أدى انفجار عبوة ناسفة الى تدمير جسر "الرستمية"، جنوبي بغداد وحصول زحام خانق و
عيون (المدى): كراج الحروب

نشر في: 1 مايو, 2012: 07:37 م