سرمد الطائيحين تقلب صفحات التأريخ بحثا عن انشطة واسعة كان يزدهر بسببها ميناء البصرة، ستجد ان حضور البرتغال وهولندا ثم بريطانيا قرب سواحل الهند، هو الذي ساهم بإعادة احياء شواطئ العراق هناك وربطها بخطوط الملاحة الدولية. وستجد ان جرأة علي افراسياب والي البصرة قبل 5 قرون هي التي فتحت قنصليات لكل الدول الكبرى في منطقة المعقل "خواجة سرا" وعززت العلاقات الاقتصادية لكل منطقة العراق والشام مع الغربيين.
لكنك تجد ايضا اسبابا اخرى مهمة، من قبيل ان تجار الجزيرة العربية كانوا يفضلون جمع الخيول في البصرة لتصديرها الى اماكن بعيدة. وتجد كذلك ان نصف المواد التي تستوردها فارس كان يمر عبر البصرة لا عبر موانئ ايران. لان مجرى شط العرب ثم دجلة، يوصل البضائع بسهولة قرب خانقين ومنه الى وسط ايران، بدل المرور بصحراء شاسعة تفصل شواطئ ايران عن مركزها.مناسبة هذا الحديث هو تصريحات جديدة للسيد رحيمي نائب الرئيس الايراني، حول "الاتحاد" والتعاون مع العراق. ففي حديثه ترد عبارات من قبيل "ان العراق وايران نصفان لتفاحة واحدة". وأن "خوزستان والبصرة" توأمان تجاريا وثقافيا. وان على العلاقة ان تزدهر بأقصى حدودها.والحقيقة ان علاقتنا بإيران اقدم من الحروف المسمارية التي رسمها السومريون قرب شواطئ الخليج وظلت امبراطوريات فارس تستخدمها للكتابة حتى الفتح الاسلامي. العلاقة اقدم حتى من اشكال الآلهة الفارسية التي تعتبر نسخة معدلة من آلهة وادي الرافدين. وبعيدا عن العلاقة المذهبية وامتداد التشيع، فإنك حين تحاور المثقف الايراني تجد ان كل شيء تقريبا مشترك، لا مع العراق وحسب بل ومع كل الحواضر التي اسست امبراطورية الاسلام وعاصمتها العراق. اما في خوزستان ومركزها (الاحواز) التي يتحدث عنها الرجل فالامر اوضح. وحين اتجول في عبادان او المحمرة، في وسعي ان اسمع لهجة سائق تاكسي وأسأله: هل انت عراقي؟ فيضحك ويقول انه من تميم او كعب او شمر..الخ، وانه من امارة الشيخ خزعل ويحمل الجنسية الايرانية.التاريخ والمصالح المتشابكين، كانا ربما من اسباب الصراع الازلي بين وادي الرافدين وهضبة زاغروس. وفي وسع كل صراع ان يتحول الى شراكة حين تكون خياراتنا وفق مصلحة يجري تعريفها بشكل صحيح.لي ان اوافق على ان العراق شطر من تلك التفاحة. او ان ايران شطر من تفاحة كبيرة هي روح الشرق الاوسط وعالمه القديم. ولي ان اقبل ان العراق لم يقم بإدارة خلافاته مع ايران وفق مصلحة صحيحة. ولك ان تسجل على العرب مآخذ ومآخذ وان تحسب دورا للنزاعات الطائفية. لكن المشكلة التي لاتزال تحول دون علاقة طبيعية مع ايران، هي نفس المشكلة التي تجعل النظام الايراني يواجه ازمة عميقة مع افضل نخبته واحسن طبقات شعبه واهم رجال اعماله ومعظم القوميات التي تعيش في بلده.ايران تتحدث عن اهمية العراق بالنسبة إليها، وسط اقسى لحظات صراعها مع الغرب. انها تنسحق اقتصاديا وتبحث عن "منفذ" تستخدمه للتوازن. وحين نريد ان نوازن نحن كعراقيين، فإننا نخشى ان نكون يوما، مع ايران ضد الدول الكبرى. او مع ايران ضد المنطقة. او مع ايران ضد الشعب الايراني الذي يتحسر على الانفتاح سياسيا وثقافيا، ويدفع ثمن طموحات التوسع في قمة هرم نظامه الثيوقراطي.العراق خرج لتوه من عزلة دولية بدأت مع سقوط نظامه الملكي وتعاظمت مع صدام حسين. واكثر ما يحتاجه شراكة عميقة مع المجتمع الدولي. ومع انظمة حديثة منفتحة وديمقراطية. ومع شراكات تعزز ثقة العالم بنا كعامل استقرار في قلب مناجم البترول وتجارة الترانزيت وخطوط الملاحة. وأي ضعف يجعلنا مجرد ورقة تلعب بها ايران في لعبة نووية خطيرة، سيعيدنا الى وضعنا الصعب.ايران شريك تاريخي وعليه ان يبادر لتهدئة كبرى مع العالم كي يتاح للعلاقات ان تأخذ شكلها المطلوب. حين تحظى ايران بسلامها الصحيح، فإن كل المنطقة لا العراق فحسب، ستكون بخير. وأقصى ما نحلم به ان يعود إلينا تجار نجد ومغامرو البندقية واوربا ورجال حلب الاكثر جرأة، وقباطنة الهند.. وأكثر أذكياء فارس فائدة لكل هذا الحراك.تفاحتكم اليوم حامضة آقاي رحيمي، يصعب ازدرادها، والعراق مريض يحتاج تفاحا من نوع آخر. النخب العراقية الطامحة الى مآل تنموي صحيح، مثل نخبتكم الايرانية الحالمة بدولة مدنية والتي تتعرض لقمع يومي، يحلمون بطعم جديد لحروفكم.. ولأشكال آلهتكم التي ظلت تشبهنا على مر التاريخ.
عالم آخر:من ايران.. حروف وتفاح وآلهة
نشر في: 1 مايو, 2012: 08:32 م