سعد محمد رحيمجذبني لقراءة كتاب (الذهاب إلى السينما) اسم مؤلفه سيد فيلد، حيث سبق لي وأن قرأت له كتابه الممتع (فن كتابة السيناريو) في التسعينيات بترجمة الراحل سامي محمد. وهذا الكتاب الجديد الصادر عن سلسلة الفن السابع/ دمشق 2011، بترجمة أحمد الجمل يحكي الرحلة الشخصية للمؤلف في عالم السينما خلال أربعة عقود،
مثلما يخبرنا على غلاف الكتاب.. يقول في المقدمة: "يبدو الأمر وكأنني أمضيت معظم حياتي جالساً في صالات سينما مظلمة، أحمل في يدي كيساً من البوشار، سابحاً في الخيال، محدِّقاً بالصور التي تُعرض، من الأضواء المتدفقة من الشاشة العملاقة". تصوّرت للوهلة الأولى أن موضوعة الكتاب هي عن ارتياد صالات السينما، وأجواء تشغيل الأفلام وعرضها على الشاشة، وممارسة طقوس المشاهدة وما تخلِّفها من انطباعات ومسرّات، ومشاعر تتقلب مع تقلبات الأحداث الجارية في القصص المصوّرة، غير أن استرسالي في القراءة غيّر من تصوري ذاك، لأن المؤلف ناهيك عمّا ذكرت كان يسرد سيرة حياته في علاقتها بالسينما وصناعتها، وبهوليوود مكاناً نشأ فيه وعانى وعمل بدأب حتى أصبح واحداً من شخصياته المعروفة كاتباً للسيناريو ومدرساً لفنه ومؤلفاً لبضعة كتب تعد اليوم مراجع كلاسيكية للدارسين والمؤلفين في مجال كتابة السيناريوهات السينمائية. من هنا يصطحبنا المؤلف إلى دهاليز تلك المملكة الإبداعية ليعرِّفنا على قوانينها المكتوبة وأعرافها وتقاليدها وحكاياتها وأسرارها، وتلك التفاصيل الدقيقة الخاصة بصناعة الأفلام وتسويقها. والتطورات التقنية التي حصلت في مضمار تلك الصناعة خلال نصف قرن. وقد شكّل هذا كله خلفية بانورامية لصعود نجم المؤلف الشخصي في هوليوود وتحولات معرفته وإبداعه، لاسيما في مجال كتابة السيناريو ونقد الأفلام. لاحق فيلد، عبر معايشة يومية مباشرة، وطوال خمس وثلاثين سنة "كيف أصبحت السينما ليست فقط جزءاً مكملاً لثقافتنا، جزءاً من تراثنا، إنما كيف باتت تشكل أسلوب حياة، يوسم العالم كله. فما أن يجلس الجمهور في عتمة صالة السينما، حتى ينضم إلى كيان واحد يرتبط عبر وحدة من مشاعر وجدانية لرابطة خفية وعميقة لروح إنسانية، توجد في ما وراء الزمان والمكان والمحيط". تعرّف فيلد على المخرج الفرنسي جان رينوار في ربيع العام 1960 فشعر منذئذ بأن حياته قد اتخذت اتجاهاً مغايراً.. كان رينوار أستاذه الأول، هو الذي جعله يُغرم بفضاء السينما، فبات يتعامل مع الأفلام برؤية جديدة، وعميقة، حيث يمكن أن يدرسها ويحللها في أشكالها، وبناها، ويستنبط منها المعاني والرؤى والدلالات. وهكذا صارت السينما، الشطر الأهم لحياته، ووسيلة كسب عيشه. علّمه رينوار كيف يراقب العالم والطبيعة، وكيف يتجنب الكليشيهات ليكون منصفاً إزاء الشخصية والموقف. وإذا كان الفن بحسب رينوار "شكلاً جديداً من أشكال الطباعة ـ شكلاً آخر من أشكال التحول الكلي للعالم عبر المعرفة" فإن الفن هو ما تجلس وتصنعه (بالممارسة) مقدِّماً للمشاهد فرصة الاندماج مع المبدع. وحين انخرط في حصة كتابة السيناريو في الجامعة غرست المخرجة دوروثي آرزنر في نفسه الاستعداد لقبول ارتكاب الخطأ كما يقول.. وما عليه سوى الاستمرار في الكتابة، وإعادة المحاولة مراراً وتكراراً، إلى حين الوصول إلى إنجاز نص سيناريو جيد، ممكن تحويله إلى شريط لافت يستقطب المشاهدين. علّق من كتابه (فن كتابة السيناريو) في ذاكرتي عبارة: "اخلق شخصية تصنع قصة". وفي كتابه (الذهاب إلى السينما) يشتغل على هذه الفكرة ويطوِّرها. مستفيداً من كشوفات النقاد الكبار في حقل السرديات. لاسيما في ما يخص مفاهيم، وجهات النظر وأنساق السرد والحبكة وفعل الشخصية وبنية القصة، الخ. مدركاً أن الأفلام ليست سوى "قصص تُروى بالصور. وفي حين أن الحدث والحوار هما جزءان مكملان للسيناريو، فإن خط القصة يتكشف بصرياً من خلال الصور". يتفحص فيلد مجموعة من الأفلام، فهو لا يكتفي بمشاهدتها وإنما يسعى للحصول على نصوص السيناريوهات المعتمدة من قبل المخرجين في أثناء تصويرها، فيقرأها ويقارنها بما يجري على الشاشة. مركِّزاً على الشخصيات وأدوارها وصراعاتها.. يجعله فيلم (النهر الأحمر لهوارد هوكس/ بطولة جون واين) يكتشف أن الحاجة الدرامية للشخصية هي مصدر الصراع "يولِّد الإطار الدرامي لخط القصة". فيعرّف الحاجة الدرامية بأنها ما تريد الشخصية الرئيسة أن تحققه وتكسبه وتحصل عليه. وتحديد هذه الحاجة هي مفتاح خلق الشخصية القوية في أي فيلم. وهذه هي الخطوة الأولى. ويبقى السؤال قائماً عمّا يجعل شخصية ما على الشاشة جذابة؟ يعود لمشاهدة فيلم ( كازبلانكا ) فيجد السر في خصائص شخصية ريك (همفري بوغارت) ذلك "التركيب في الطبيعة الأساسية للشخصية التي يلعبها، وإطلالته على الشاشة والدور الذي يُعطي بوغارت مكانة ميثولوجية هنا... شخصية قاسية وجريئة، ذات مركز أخلاقي قوي". إن ما يبحث عنه فيلد هو شخصية البطل.. بطل متمرد، له مُثله العليا، وقواعده
الذهاب إلى السينما
نشر في: 2 مايو, 2012: 06:53 م