علي عبد الأمير عجامإن واحدة من رتابات الثقافة العراقية، تتعلق بتكريس أسماء معينة في حقول إنتاجها، فتصبح الأسماء دالة على النتاج الأدبي والفني والفكري، وليس العكس، فيكبر الاسم ويتضاءل النتاج، حد انك تجد ببساطة "قامات" شعرية تكتب نصوصا رديئة، لكنها بحسب "سياسة التكريس" حاضرة في المراجعات النقدية والندوات في المهرجانات بالطبع، فيما تجد نصوصا تنتمي حقا إلى "جوهر الشعر"
لكنها تمر عابرة على أوساط تبدو مهمتها قائمة على الفحص الدؤوب والمراجعة النقدية. غير أن لا عجب أن تكون تلك الأوساط صاحبة "سياسة التكريس" مشغولة باضاءات تشع هنا وهناك في خارطة كبيرة اسمها الشعر العراقي، وتحديدا خارطته الآن.منذ فترة وأنا اكتب مراجعات لنصوص تناهض "التكريس"، لا احفل بأسمائها، لا برنين تأثيرهم الاجتماعي في الثقافة العراقية، ولا بمكانتهم "الورقية"، إنما أجدها مشتغلة في جوهر الكتابة ومبررها، فضلا عن عنايتها بالإطار الفني دونما استعارات فجة للحداثة، بل تأصيلاً لأسئلتها، فتصبح منطلقات الرؤية متجهة إلى الفضاء المحلي والوطني، ولكن دون التخلي عن الهاجس الإنساني في تمثل الحرية، ومقاربة قيم الخير والعدل والجمال.صحيح أن نص "أيها الوطن.. ماذا تريد منّا؟" هو لشاعر وكاتب صديق، خبرت معه الحياة بمنعطفاتها العراقية الحادة والقاسية: الحروب والحصارات والقمع، مثلما خبرت معه الثقافة والسياسة حين كان يرسل لي من بغداد، نصوصا في الشعر والسرد وننشرها في منابر ثقافية معارضة لنظام صدام، موقعة باسم ابنته (أيّار)، لكنني لم اكتب عن كاظم الواسطي، إلا حين وجدت نصا عميقا له منشورا في "المدى" قبل أيام، نصا يبدو ببساطة، منتميا إلى جوهر الشعر، الجوهر الذي لطالما أهمله نهج نقدي سعى إلى "تكريس" الأسماء في الثقافة العراقية بحق أم من دونه.كاظم الواسطي، شاعر وكاتب اقرب الى جيل السبعينيات الأدبي في العراق، الا انه خارج دائرة الاهتمام النقدي القائم على "التجييل"، بل خارج نقد شاخ فعليا في العراق، فصار مهووسا بالأسماء "المكرسة" ومحمولاتها الفكرية والسياسية والحزبية الضيقة، فضلا عن تأثير العلاقة الشخصية التي تبدأ من الصداقة، وهي حق، لتنتهي نفعية تضرب عرض الحائط، بأي مقياس فني رصين.الواسطي (كان يوقع اسمه الداخل)، يبدأ نصه، مع أساس جوهري في العمل الأدبي والفني: النظر الناقدة للواقع، فيحاور "وطنه" عبر نقد ظاهرة حضوره بوصفه "تذكار أو سوفنير":لم أضَعْكَ، مثلما يفعل البعضُ، خارطةً معدنّيةتتدلى على صدرٍ مفتوح في فضاءٍ غريب.ولم أُخفِكَ، حفنةَ ترابٍ، في جيبٍ مثقوبتتناثرُ على مقاعد الطائرات، وفي صالاتمطاراتٍ بعيدة.وفي ما تصح ملاحظة أن ليس كل من وضع (وضعت) خارطة ذهبية أو فضية للعراق على صدره (صدرها)، وكل من رحل مغتربا، هو اقل ارتباطا بالعراق، أو وطنية، ممن ظل يعاند القسوة والرعب داخله، إلا أن هناك تلمسا من صاحب النص، لمن صار الوطن عندهم "شعارا" و"مظهرا خارجيا"، وهو حيال مهمة التعبير نقدا لمثل هؤلاء.وإذا كان الواسطي ليس منهم، فإنه بالضرورة من نوع آخر خبر العراق بمحنه وفواجعه ومساراته وإن بدت شحيحة، انه ابن من شب فيه الوطن عبر وجودهما الإنساني البسيط والشفيف والطبيعي:رشفتك من كفيَّ أمٍ رؤوم، ومن عينيَّ أبٍ ناحلٍأضناه النهوضُ المبّكرُ فجراً، بعد عمرٍ من الليلِحارساً بأجفانهِ الذابلة.هذه التلقائية التي جاء عليها الوطن، تجعله رديفا بل قرين بالحياة في تجليات جديدة، "تورط" بها الابن، حلما ووعيا:وبحسِّ فتىً حالمٍ ، أضأتُ حروفكَيومَ كان النهارُ يتجاذب مع الليلِ أطرافَ السواد.وحينما صرتَ كتاباً ممنوعاً تحت نار الفْوّهاتحملتكَ من غرفٍ في الزوايا ، لأطلقكَ بزهوٍفي فضاء النور.الحالم هنا، استعارة عن وعي بوطن قرين الضوء، قرين الحرية، قرين المعرفة. ومن هنا يبدأ المأزق، ليس للواسطي وحسب، بل لجيل أو أجيال بأكملها، مأزق البون الشاسع ما بين الحلم الذي صار وعيا مستقرا، والوقائع في مرجعياتها الاجتماعية والسياسية القاسية.رفعتكَ رايةً مطرّزة بحروف الصداقةِ ، نخباًلصحبةٍ من جباهٍ ناصعة ، وقلبٍ شفيف .وكم بكيتُ معكَ على غياب صديق ، في زنزانةٍأو شتات.ومثلما هناك مأزق، هو المسافة المستحيلة بين صورة الوطن حلما وجوهره واقعا قاسيا، يتأرجح النص بين ومضات شعرية مثل: هل نسيتَ كيف كنا حطباً، في موقدِ مجنونٍ؟والكلام العادي الذي يطعن في النص جوهره الشعري مثلما في السطور الآتية:"أيها الوطنُ القريب - البعيدبِمَ كافأتَ روحا لم تُغادرْكَ في مهّب الخلاصِوظلّت معلّقةً في فضاء لهيبك، وفي زوايا انتظارٍجففَّ العمرَ، ولا أحد كان يعلمُ متى ينتهي" في النص مباشرة واضحة، قد تكون مبررة حين يبدو الحوار مع "المكان - الوطن" وقد قارب "اليأس" ان يكن قد تحول إليه: "أقولُ لكَ مضطرا من وجع في الروحِأنتَ الراسخُ فيه: إن التماديّ أكثر مما فاضَسيكون له اسمٌ آخر غير الصبر.وإن سامحتَ مَن يستعبدُ عقولَ الناس باسمكَوبكلامٍ نساهُ الميّتونَ من قبلنا"التحذير الذي يتحول إليه خطاب الواسطي مع "وطنه"، إ
الشعر العراقي الآن.. كاظم الواسطي يسأل وطنه ببساطة.. ماذا تريد منّا؟
نشر في: 4 مايو, 2012: 07:49 م