شاكر لعيبيالثقافة العراقية لا تدافع اليوم عن نفسها بشكل كافٍ بصفتها تياراً وكتلة في سياق التيارات التي تشكل الثقافة العربية والعالمية. إنها لا تعرف الدفاع عن جماع عناصرها، بينما يعْرف مثقفوها جيداً الدفاع والترويج لأنفسهم وجهاتهم الجغرافية حصرياً بشكل بارع، وقبل الدفاع عن جماع ثقافتهم الوطنية.
لو صح هذا الاستنتاج فإن عواقبه وخيمة على النشاط الثقافي برمته. قبل أيام كنت أتحدث مع شاعرة ليبية بمناسبة مهرجان شعري (عالمي) في طرابلس لم يُدْعَ له شاعر عراقيّ واحد. ليس هنا جوهر الأمر، ففي المهرجان ثمة ندوة عن "المكان والمنفى والإبداع الشعري" تُطرح فيها مَحاوِر من قبيل: "كيف يؤثر الترحال في تشكيل الشاعر وشعره، وما أثر البقاء في الأماكن التي ننتمي إليها سواءً كانت وطن المولد أم وطنا مكتسبا؟ وكيف ينميان قدرتنا على الابتكار في الشعر؟ بأي شكل يُمكننا الشعر على اكتشاف أسرار المكان، وهل يمكن أن نبتكر بالشعر نوعاً من السكينة والتأمل في عالم يسود فيه النزوح والحراك". وكلها موضوعات استغرق بها الشعر العراقي لأربعة عقود، وما زال. رغم ذلك لا نجد مساهماً عراقياً واحداً. ويحق للمرء التساؤل عن السبب. وهو ما حاولته مع الشاعرة الصديقة التي أبدت اندهاشها مثلي بل تحدثت مع منظمي المهرجان بهذا الصدد. للجواب على مثل هذه الوضعية، وما أكثر أمثلتها، علينا التذكير أن كل عناصر الفساد والعطن ما زالت مهيمنة في الأوساط الثقافية العربية، رغم الحراك الشعبي والسياسيّ، حتى أنه يمكن الزعم أن جمهرة من المثقفين العرب، سادة المشهد، لا يعرفون غير منطق الخوف والمنفعة: عندما تمتلك السطوة والسلطة التي تُجتبى المنافع منها فلسوف يُحسب حسابك في الأنشطة الثقافية العربية، وهو ما لا يتوفر للمثقفين العراقيين منذ حين. وما لم يُدركه البعض منهم. وإذا ما أدركه فلسوف يتكيّف لصالحها، منخرطاً فيها بصفته الشخصية المحض وبمهاراته المريبة أحياناً. لو سأل منظمو تلك الفعاليات، العربية والعالمية، هذا المثقف العراقي عمّن يمكن دعوته، فلسوف يتردد طويلاً. لن يفكر موضوعياً في الغالب بالثقافة العراقية، ولفكّر بنفسه وببعض أصحابه الخلّص حتى لو لم تتوفر فيهم شروط تمثيل الظاهرة. هذا ما رأيناه مراراً تكراراً في المهرجانات والترجمات. عراقياً: يبدو المثقف مستغرقا بذاته، بالترويج لها بصخب، بتجاهل أقرانه في الفعاليات العربية والمحلية. إنه يحصر نفسه في زاوية ضيقة ولا يعترف في النهاية بالثقافة العراقية بصفتها تياراً مائياً خصباً يمكن أن يحمله ويحمل غيره. هذا (الانحصار) الذاتي أدّى إلى محاصرة الثقافة العراقية في نهاية المطاف عربياً. وهو عينه على المستوى النقدي العراقي الذي يقوم بعملية التجييل العشريّ القسريّة، أي الانحصار في زمن قصير افتراضيّ، أوصل إلى فكرة (القطيعة) بين الأجيال بدلاً من بداهة الاستمرارية. قطيعة شعرية افتراضية عراقية هي الوجه الخفيّ للقطيعة الإنسانية والثقافية الفعلية العراقية على المستوى العربي.سوف نتحقق فيما إذا كانت الفرضية المطروحة هنا صحيحة أثناء مهرجان المربد القادم (التاسع من أيار 2012) الذي، ويا للمصادفة، يختار أيضا محوراً عن"تجربة الشعر في المنفى" مثله مثل المهرجان الليبيّ. سنرى أيّ شعر وأيّ منفى وأيّ مدعويين لمحور كهذا؟ وسنرى فيما إذا كانت خيارات عاشور الطويبي وخالد المطاوع في ليبيا تنطلق من نفس المرتكزات التي ينطلق منها إبراهيم الخياط وفاضل ثامر في العراق عن الموضوع نفسه؟ أم أن مقاراباتهم ودعواتهم ستكون مختلفة موضوعياً؟ لن نستبق الحدث وسنرى....
تلويحة المدى: ثقافة العراق التي لا تدافع عن نفسها
نشر في: 4 مايو, 2012: 07:50 م