لطفية الدليميالمهندس المعماري الحالم ورجل الذاكرة البغدادية التي قلّ نظيرها الدكتور محمد مكية، يروي في كتابه ( خواطر السنين ) تاريخ مدينة وتحولات وطن وانهيار أحلام وتحقيق سواها في العيش والمشاريع العمرانية والثقافية في العراق وخارج العراق فقد امتدت أنشطة مكية بين البلاد العربية وبريطانيا وترك من إبداعه المعماري معالم بارزة في مدن العراق وجامعاته وجوامعه
كما ترك بصماته في الفن المعماري ذي الجذور الإسلامية في كثير من مدن الخليج الحديثة ، يحدثنا بألفة وحنو وكأنه يروي حكايات أسطورية عن مدينته التي عشقها ، يعيد لنا رسم بغداد الثلاثينيات برؤية إبداعية وتذوق غريب للنكهات المحلية التي تنبثق من رائحة البيوت وخصاص الشناشيل وأشجار الحوش الوارفة وعصافيرها وبئر البيت والسقائين ،يتقصى في زوايا ذاكرته المتقدة طرز الحياة أجمعها : البناء والملابس والعادات والتقاليد ونمط العيش المشترك بين الأقارب في بيت كبير واحد وعشق المراهقة الخجول وتطلعات الفتوة ..يتحدث الدكتور مكية عن تأسيس جمعية الفنانين العراقيين ويقول (لقد تميز عقد الخمسينيات في العراق بمكانة فنية عكست الهوية العراقية العريقة من عهد سومر وبابل وعبرت عن تلك المكانة بظهور جواد سليم والمدرسة البغدادية ومحمود صبري وفائق حسن وآخرين ) وكان تأسيس جمعية الفنانين العراقيين في حينها يعد حدثا تاريخيا هاما ، واسهم الدكتور مكية في التأسيس - وهو الذي كان يحضر محاضرات أساتذة الفن البريطانيين الكبار إضافة الى دراسة الهندسة - مدركا للوحدة العضوية بين الفن المعماري والتشكيلي ، فتأسست الجمعية سنة 1954- من اجل تحقيق الهوية الفنية العراقية والتعبير عنها والحفاظ عليها من التأثيرات وإبراز هوية متنوعة في إطار واحد ، يقول الدكتور مكية (إن تجربة تأسيس الجمعية كان مشجعا لقيام مؤسسات مدنية خارج الإطار الرسمي ، فالفن مسؤولية الفنان لا مسؤولية وزير او معهد فنون).برؤية نقدية رفيعة يكتب عن أعمال الفنانين العراقيين، فيعجب بأعمال كثيرة لمحمد غني حكمت لكنه يقول (لقد تنازل فنيا في تمثال المتنبي عندما أظهره قزما يقف على الرصيف في الباب المعظم فالتمثال لا يمت بصلةٍ لشخصية شاعر كبير ودوره في تاريخ الأدب والشعر) ، ويظهر الدكتور مكية إعجاباً كبيراً بجدارية الحرية لجواد سليم لكنه يرفض ارتفاع النصب عن مدى الرؤية البصرية الذي نفذه رفعت الجادرجي وهو ما لم يتمناه جواد – إذ كان جواد ( يريد أن يلمس المارة والأطفال لوحته الكبيرة ليزيدوها جمالا وحسا وعاطفة)، وقد اقترح الدكتور مكية حين استشير بموقع نصب الحرية ونوقشت الفكرة مع الفنانين، أن ينعكس ظل الجدارية الكبيرة في بركة ماء لتكون في متناول البصر بحدود النظر فعندها يستطيع المشاهد الإحساس بمنحوتة الأم والطفل وهما من أهم عناصر اللوحة أما ارتفاعها الحالي فقد جعلها كالشبح البعيد ..للدكتور مكيّة رأي معماري وفني واجتماعي يتعلق بالنصب والتماثيل فهو يفضل الجداريات وهي تقليد سومري عريق ويعتبر الفن السومري اقرب إلى الحداثة من كثير من المدارس الفنية المعاصرة، ويذكر كنوع من المفارقة أن يتأثر عمالقة النحت الأوروبي بالفن السومري مثل (هنري مور) بينما يتأثر فنانون عراقيون بمايكل أنجلو – وتأسيسا على ذلك النبع - صمم جواد سليم شعار جمعية الفنانين من وحي الرافدين مع صورة كوديا السومري، ويكتب الدكتور مكية عن تردي الفن العراقي الذي حرصت الجمعية على مستواه – خضوعا لمعايير السلطة وشعاراتها اليومية بعد 1968، فتحول الفن إلى دعاية سياسية ..
قناديل: نصب الحرية والفن العراقي: نقد ورؤيا
نشر في: 5 مايو, 2012: 08:09 م