بغداد / عبد الكريم العبيديلم ينقطع المسعف من إطلاق سيل من التوسلات المختلفة "الله يخليك افتح طريق. أبو البرازيلي رحمه لوالديك. أخويه ساعدونه، يمعودين. رحمه لوالديكم اتركوا السايد الأيسر. أبويه، طريق، إسعاف، جرحى، يمعودين.....".
إلى هذه التوسلات، كان المسعف يأتي من يوم لآخر لقضاء "24" ساعة دموية مليئة بالمفاجآت. والى هذه المخاطر والرعب والزحام، كان يهب "ذاتيا" لإنقاذ ضحايا الانفجارات ثم يعود إلى بيته ـ إن كانت له عودة ـ ليمكث يوما واحدا قبل أن يتوجه من جديد لممارسة الدوران في شوارع وأحياء بغداد، ووسط الانفجارات المتعددة.ولكن كيف "تنصهر" هذه الـ "24" ساعة من حياة هذا المسعف؟."أستيقظ عادة في حوالي الساعة الخامسة فجرا، أصلي كثيرا، وأقرأ سورا عديدة من المصحف الشريف، ثم أقف عند الباب وأشرع بقراءة "المعوذتين" وآية "الكرسي"، ثم أتشهد، وقبل أن أخطو تسكب أمي وزوجتي "طاسة" ماء من خلفي، وكأنني ذاهب إلى إحدى جبهات القتال!". وأضاف ": أعرف أنني مستهدف، وربما أقتل في أية لحظة".وظل المسعف ينهي مكالمة مع زوجته ليبدأ مكالمة أخرى مع أبيه، وأخرى مع أحد أشقائه طيلة فترة أجوبته المتقطعة والمرتبكة أحيانا. وكثيرا ما كان ينسى فيقول ":عذرا، وين وصلنا!؟" إذن هي نوبة عمل قلقة سيقضيها، منذ سماعه لصوت انفجار هائل هز بناية المركز المتواضعة، وتلاه، بعد انطلاق سيارة الإسعاف تصاعد أعمدة الدخان.كان المسعف يتطلع في السماء:"كل الانفجارات التي تحصل من حولنا نستطيع تحديد مواقعها من أسراب النوارس والحمام التي تهرب مذعورة إلى الجهة الأخرى، فنستدل على مكان الانفجار ونذهب إليه، وننطلق بسيارة الإسعاف بلا إذن من أحد، ثم تأتينا النداءات فيما بعد عبر جهاز الموبايل، إننا نستغل الوقت ونسلك الشوارع الفرعية والترابية، أو "الرونك سايد" لكي نتمكن من إنقاذ أكبر عدد من الجرحى، ولا ننتظر". ويبدو أن بعض توسلات المسعف نجحت في إفساح المجال للسيارة رغم أن الكثير من السائقين كان يسخر منه ويتلذذ على ما يبدو بذلك. بعضهم قال ": شبيهه الإسعاف اليوم؟، واحد محروقة إصبعه؟". آخرون قالوا ":إشخبصتنه!؟، كله إكلاوات.. أيباخ، لاهاي هيه، خصمت!."يقول المسعف: "أحيانا يحصل انفجار، ونهرع نحوه، وننقذ الكثير من الجرحى، ثم يحصل انفجار آخر في ذات المكان، فيقتل العديد من الجرحى ومن المسعفين والمواطنين. وفي أحيان أخرى يحدث تبادل لإطلاق النار بين القوات الأمنية وعدد من المسلحين، وكثيرا ما نصبح عرضة لإطلاق النار من قبل الجميع، ولذلك فقدنا الكثير من المسعفين والسائقين".نادرا ما كنا نشاهد سيارة إسعاف في زقاق أو شارع. وإذا مرقت واحدة منها، كنا نمط أعناقنا لمشاهدة ما بداخلها من خلال حافات ضيقة في زجاج نوافذها تركت بلا طلاء ابيض. كنا نبحث عن آخر إيماءة تركتها أصابع جريح لتجف على النافذة. ولكننا لم نعرف ما تحويه تلك السيارة، أو ما يدور بداخلها. العقد السبعيني كان بمثابة الفترة الذهبية للإسعاف الفوري، فقد كان عملهم يقتصر على إنقاذ ضحايا حوادث السيارات ونقل السيدات اللواتي يحاصرهن المخاض فقط، ولكن في أعوام الحرب الثماني بين العراق وإيران كانت للاسعاف مساهمة فاعلة في إنقاذ الضحايا أما الآن فقد انتشرت حوادث القتل، وتصاعدت أعمال العنف فتعقدت طبيعة عملهم كثيرا، وكانت بداية لدخولهم في نهارات وليال دامية.وكانت تدار من قبل المخابرات والأمن الداخلي ومليشيات ما يعرف بفدائيي صدام. وكانت الاسعاف تستخدم للاغتيالات ونقل جثث القتلى إلى الصحراء لدفنهم في ما عرف لاحقا بالمقابر الجماعية. والمفارقة المؤلمة، أن المسعفين، وبعد أكثر من ثلاثين سنة تحولوا إلى حمالين لنقل الجثث أيضا من مناطق التوتر في المحمودية وأبو غريب والرستمية والحسينية إلى دائرة الطب العدلي!."ويبدو أن المسعفين العراقيين هم الفئة الأولى التي تحصد أعلى معدل من القبلات من قبل آبائهم وأمهاتهم وزوجاتهم وأشقائهم وأولادهم وبناتهم وزملائهم. وهم الفئة الأولى التي تستهلك أكبر عدد من "كارتات" أرصدة الاتصالات، بسبب عدم توقف أجهزة الهواتف النقالة العائدة لهم ولعائلاتهم. وهم الفئة الأولى التي تقضي كل ساعات عملها في الدوران في شوارع بغداد وسط الانفجارات ومخاطر الطرق.
عيـون المدى: قصة سيارة إسعاف

نشر في: 5 مايو, 2012: 08:34 م