بغداد / أحمد حسين تصوير / محمود رؤوفلطالما اقترن ذكرها بقصص ألف ليلة وليلة، وتاريخ حافل بسحر الشرق يجتذب السياح من مختلف دول العالم للتجول فيها، إنها بغداد، عاصمة الإمبراطورية العباسية، مدينة الشعراء والطرب، في ذلك العصر، ومدينة ليالي أبي نؤاس والشناشيل حتى وقت قريب.
إلا أن الصورة لم تعد كذلك، وقد زار بغداد الحالمون بمشاهدة معالم تعود بهم إلى عصر ما زال يشغل عقول الكثير ويداعب مشاعرهم، وهم متشوقون لرؤية أزقة بغداد القديمة، ستخيب آمالهم لما آلت إليه هذه المدينة."أمضيت فيه سبعين عاما، وودعت منه أحباء، وأرغب أن تكون آخر أيامي فيه، لكنني أخشى على أبنائي وأحفادي من البقاء فيه". هذا ما قاله المعلم المتقاعد أبو وليد، من أهالي الحيدرخانة، عن منزله الذي يقع في أحد الأزقة الضيقة، بدت شناشيله مائلة بشكل واضح ومخيف، حتى أن المارة يحق لهم تجنبها خوفا من أن تنهار عليهم. ويضيف في حديثه لـ"المدى" أن عائلته انتقلت من منطقة (تبة الأكراد) إلى هذا المنزل قبل 70 عاما، كان عمره في حينها ستة أعوام، "في هذا المنزل ولد اثنان من أشقائي وشقيقتي الصغرى، ومنه خرجت جنازة أبي وأمي وشقيقي الأكبر، فيه ترعرعت ومن الصعب عليّ مغادرته، لكنني أخشى على أبنائي وأحفادي من انهيار المنزل على من فيه".ويشير أبو وليد إلى عدد من المنازل المهدمة في الزقاق نفسه قائلا: "من حسن حظ سكانها أنهم غادروها قبل أن تنهار، فقدت اعتدنا نحن سكان هذه المنازل على قراءة علامة الانهيار قبل وقوعه".ويبيّن "على سبيل المثال، أولى تلك العلامات تبدأ في الطابق العلوي، حيث السقف يتقوس بشكل واحد جدا، ما يعني أن العمر الافتراضي شارف على الانتهاء، عندها نقوم بهجر الطابق وإغلاق غرفه بالأقفال والبعض منا يقوم بلحام الأبواب وباب في أعلى السلم لمنع الأطفال من الصعود، ونكتفي بالطابق الأرضي".ويتابع أبو وليد "لم يبق في العمر باق ولا أخاف انهيار المنزل عليّ، لكن المشكلة لا تتعلق بيّ وحدي، والمشكلة الأكبر ، ليس لدينا بديل، فأزمة السكن وارتفاع بدلات الإيجار تجعل انتقالنا من هذا المنزل أمرا شبه مستحيل".ويوضح "عائلتي كبيرة، أنا وزوجتي، وأبنائي الخمسة وزوجاتهم، يضاف لهم أبناء وبنات أبني الأكبر وعددهم خمسة أيضا"، يصمت للحظات ثم يبتسم "الحقيقة نسيت عدد الباقين، لكن مجمل عدد العائلة يزيد على 25 فردا على ما أظن"، مشيرا "نحن الآن ست عوائل، ما يعني أننا بحاجة إلى ستة منازل، لكن أبنائي موظفون بسطاء وأوضاعهم المادية متوسطة برواتب لا تسمح لهم باستقطاع جزء منها مهما كان ضئيلا لدفعه كإيجار، خاصة أن أبناءهم وبناتهم طلبة في المراحل المتوسطة والإعدادية وبعضهم في الكليات".يبدو حال أبي وليد وعائلته أفضل من غيرهم، فهناك الكثير من العوائل التي اضطرت إلى هجر منازلها في مناطق بغداد القديمة خوفا من انهيارها، كما أن المنازل المهدمة تتحول بطبيعة الحال إلى مكب للنفايات، ما يخلق بيئة خصبة لانتشار الأوبئة والأمراض، فضلا عن الكلاب السائبة والروائح الكريهة التي لا تطاق خاصة في فصل الصيف، وبالإضافة إلى ذلك تأتي شبكات الصرف الصحي بانسداداتها لتضيف عبئا آخر، حيث تنتشر في أزقة بغداد القديمة البالوعات الخارجية الطافحة طوال الوقت لتلقي بما فيها إلى الزقاق.شناشيل بغداد التي كانت حتى وقت قريب أشبه بلوحة فنية معمارية معظمها اندثرت، وفيما تحافظ الدول على تراثها المعماري والثقافي والحضاري، تبدو بغداد متنكرة لتراثها، وكأنها تنتقم منه بالهدم ومياه الصرف الصحي والأزبال، وفي المقابل تقف الجهات المعنية موقف المتفرج، أو مكتوفة الأيدي بسبب سوء التخطيط الأساسي أو ما أضيف من وحدات سكنية من دون حساب العواقب.
بغداد القديمة.. شناشيلها أصبحت أنقاضاً وأزقتها مزابل

نشر في: 5 مايو, 2012: 08:39 م