اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > خارج العاصمة: اتصال هاتفي

خارج العاصمة: اتصال هاتفي

نشر في: 12 أكتوبر, 2009: 07:12 م

محمد خضير أتحيّن المناسبات للاتصال بأصدقائي المتفرقين، عبر الهاتف النقال، اتصالاً يستنفد آخر (سنت) متبق في رصيد المكالمات. بهذا أسدد ديوناً أشعر إني أحوّلها إليهم خلال المكالمة، وأستلف بدلها ما يعينني على التذكر والتوهج، قبل حلول لحظة الانطفاء والصمت، انطفاء الصوت وانغلاق الهاتف.
لا أستعير هذه الطريقة من نص أدبي أو شريط سينمائي، إنما تأتي ضرورتها في الأصل من إلحاح حقيقة العزلة الداخلية والخارجية التي تقصي العراقيين هذه الأيام وراء حواجز مصطنعة. ومقابل هذه الحقيقة صار العراقيون من أبرع الشعوب في اجتياز الفواصل، والاتصال بأكثر من واسطة، أنشطها ذلك الصوت المتقطع وهو يشق الفضاء الخلوي ويتمتم بطريقته العاطفية، موضحاً حالة نادرة من حالات الحياء والاختلاء عند أفراد متلازمين في أوقات الشدة. هذه هي براعة فذة خاصة بجموع شعبنا التي تحسن طريقة الاتصال الخيطي الثنائي، بين شخصين متصافيين، أو طريقة الاتصال الأحادي لفرد متوحد مع قرينه المتسلل كلص من مراقد الأموات. وكلتا الحالتين تفرض لعبة الاتصال المتقطع عبر الهاتف، أو لعبة لقاء الأشباح، وتعكسهما في أعمالنا الأدبية على المنوال الذي تعهده من قبل يوسف الصائغ في رواية (اللعبة) وفؤاد التكرلي في قصة (النداء) ومحمود البريكان في قصيدة (جلسة الأشباح) وبلند الحيدري في قصيدة (وحشة).يعزي صديقي الشاعر عبد الرحمن طهمازي ـ الذي اتصلت به هاتفياً في أحد أيام عيد الفطرـ ظاهرة تقطع الصوت إلى تقليد (فولكلوري) عُرف به أبناء العزلة وراء الحواجز النفسية والواقعية. لقد عزا ظهور العراقيين من معازلهم الاضطرارية إلى نوع من (الفولكلور) الشائع يقيمونه هرباً من عزلتهم وانسجاماً مع فطرتهم الاجتماعية. غير أن هذا الظهور لا يعدو نوعاً من الانتشار الدوري خلال الأعياد والمناسبات العامة، والاتصال العشوائي المبالغ في عاطفيته. أما في الشأن الأدبي فإن نصوص الحواجز أفعال متقطعة لا تصل إلى هدفها المنشود أبداً ولا تقيم أي نوع من الاتصال الفعال مع قارئها. ومثل هذا السلوك الفولكلوري (الاجتماعي والأدبي) نقله المهاجرون واللاجئون إلى خارج البيئة العراقية، فحافظوا على نوع من التلازم الصوتي والشعائري تحت حماية الدول التي قبلتهم على بقعتها. إننا نجد تفسيراً ثقافياً راقيا لظاهرة الهجرة المكسيكية ـ على سبيل المثال ـ في كتاب (متاهة الوحدة) لأوكتافيو باث، لكننا قلما نعثر على توضيح شامل لظاهرة احتفاظ العراقيين المنفيين بأشكال من التقليد الفولكلوري في سلوكهم الثقافي والاجتماعي. كيف نفسر ظاهرة تصلب الهوية الوطنية، مثلاً، أو تهافت الاتصال وتقطع الصلات بين الجاليات العراقية المنتشرة في أنحاء العالم، وما تأثير الازدواج اللغوي في تعطيل المهارة الأدبية عند كثير من المهاجرين المخضرمين؟ ومن ناحيتنا كيف نقيم بيننا ـ هنا في الداخل ـ اتصالاً موثقاً قوياً وفعالاً ودائمياً عبر النصوص وخارجها؟  اقترح عبد الرحمن طهمازي نوعاً من الحوار الثنائي يخوضه اثنان متضارعان ومتواجهان، فيما اقترحتُ عليه شكلاً من الحوار الهاتفي المحمول على مشكلاته المفاهيمية والصوتية المتقطعة. ويبدو أن حجم المشكلات المتجددة في الوضع العراقي تتطلب نوعاً من الحوار الواقعي الصريح والمواجهة الثنائية التي لا مهرب من حتميتها. وعلى أي حال فلا بدّ من أن تدعم ضرورة الاتصال تقليداً فولكلورياً سيتغلب على العوازل والمصدات وتيسر حواراً ثنائياً حول ( الأجيال، الكلاسيكيات الجديدة وما بعد الواقعيات، الجذور والقطائع خلال مئة عام من تاريخ الأدب العراقي، الهجرة ، نحن والعالم..). وقد أضيف نوعاً ثالثاً من الحوار، الحوار الافتراضي، وجدتُ أن لا معدى عنه بعد لقائي الروائي جمعة اللامي عام 2005 في الشارقة. كان ذاك حوار المسـافات الانفرادي، استعنتُ به بدلاً من حوار الحتميات الثنائيـة المستحيلة. لا أزعم أن الأفكار المعلن عنها آنفاً، كانت وحدها محور الاتصال المتقطع بيني وبين عبد الرحمن طهمازي، حيث أن قضايا متوارية تتعلق بصعوبة انتقال طهمازي في منطقة سكنه ذاتها لشراء بطاقة رصيد نقاله، أو تجديد اشتراكه في الانترنيت، وأبعد منها لشراء جريدة يومية، أو ارتياد معرض فني، أو زيارة صديق، لو أننا خضنا فيها لاتسعت الفجوة الأنطولوجية بين الأصوات والأجساد، ولضاعت مكالمتنا في الفضاء المشتبك الأصوات، ولما نفعت مقترحاتنا في تسويتها بنوع من الحوار الثنائي. فقد يشتبك صوت طهمازي حينئذ مع صوت بلند الحيدري في (وحشة) الأبعاد، وقد يضيع في زحمة الأجيال:(( ويرنّ الصوتيرن... يرنّ... يرنّ... يرنّ... يرنّأجيال تتهدم في أذنيلا شيء منك ولا منيمن نحن... من نحن...صوتان يموتان مع السماعه))

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

في استفتاء موسيقي تنافسي سنوي حصلت إسطوانة “أصابع بابلية” للمؤلف الموسيقي وعازف العود العراقي أحمد مختار على مرتبة ضمن العشر الأوائل في بريطانيا وأميركا، حيث قام راديو “أف أم للموسيقى الكلاسيكية” الذي يبث من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram