يعقوب يوسف جبر
الدولة المدنية بناء سياسي إداري رصين لكن من هو المؤهل والأصلح لاستيعاب نظريات البناء ؟ ومن هو الأصلح لإجراء التطبيقات ؟ ومن يملك القدرة والخبرة المستمدة من التجربة لقيادة وإدارة الدولة؟
أسئلة موضوعية بحاجة إلى إجابات موضوعية ، السر في قيام دول وتحضر أمم في المجال السياسي هو الاستعانة بخبرات الباحثين والمفكرين ، فلم ترتق الأمم والدول في سلّم السياسة والإدارة بصورة عشوائية بل يتطلب الأمر الاطلاع على الخبرات التاريخية الواسعة النطاق والتنظيرات التي وضعها المفكرون الأفذاذ .
ماذا عن دولتنا الحالية التي أفرزتها مرحلة ما بعد 2003 ؟ هل تمكن رموزها من بناء هيكليتها الإدارية والسياسية بموجب خبرات الدول المتقدمة ؟ مرت عدة سنوات والدولة الجديدة المدنية لم تبدأ بعد ، لماذا ؟
لا يمكن اعتبار ما جرى بعد 2003 هو تجربة سياسية ناجحة ، بل الذي جرى هو مجرد تدافع وصراع على السلطة بين الطوائف والأحزاب ، ونتيجة لذلك لا مكان لتطبيقات بناء الدولة .
من البديهي أن من يصلح لبناء ثم قيادة الدولة هم المفكرون السياسيون الحكماء وليس الدخلاء ، فالمفكرون السياسيون الحكماء يملكون القدرة على التنظير وكذلك التنفيذ ،أما الدخلاء فإنهم سيعيثون فسادا وتخريبا سيشعلون الحرائق ، سيبددون موارد الدولة ، سوف يتحول كل شيء إلى رماد ، ستتحول السلطة إلى دمية يتصارع حولها زمرة من الصغار والجهلة .
لا ننكر وجود البعض من السياسيين والمفكرين والحكماء في واقعنا السياسي الحالي لكنهم بلا تأثير ،فهنالك ثمة عوامل ضاغطة لا تسمح لهم برسم ملامح الدولة ثم قيادة زمام أمورها ، هنالك دخلاء وطارئون ( أميون ) يتحصنون داخل أروقة السلطة التي لا يمكن أن نعتبرها دولة .
إن تحكم هؤلاء بمقدرات الواقع السياسي مؤشر خطير يشير إلى استحالة قيام الدولة المدنية التي يطمح كل مواطن إلى قيامها ، انطلاقا من الحكمة التالية ( فاقد الشيء لا يعطيه ) .والحل يكمن في رحيل كل الدخلاء عن ميدان تجربة بناء الدولة وإفساح المجال للمفكرين المثقفين الحكماء ،فهم الأصلح للتنظير والبناء ، لكن بقاء الحال كما هو ،معناه أن مشروع الدولة سيظل طي الإهمال ، لكن على افتراض ظهور طبقة سياسية من المفكرين والحكماء والباحثين وإفساح المجال لهم لافتراض مخطط بناء الدولة وتطبيقه على أرض الواقع سيفضي إلى تحقيق طموح بناء الدولة المدنية العادلة .
إن تناولي هذا الموضوع الشيق بهذا الشكل الناقد خلفيته إيماني العميق بالمبدأ الفلسفي :السبب والنتيجة ، فمع توافر السبب تظهر النتيجة وبحسب طبيعة السبب تظهر طبيعة النتيجة ، فلو افترضنا أن العملية السياسية الحالية سيمسك بزمامها الدخلاء مع تهميش دور المفكرين والحكماء والباحثين فإن الدولة المفترضة ستكون مجرد يوتوبيا وحلم رخيص الثمن ستظهر السلطة الاستبدادية مرة أخرى وليس الدولة العصرية .
أما لو افترضنا أن ثمة سياسيين يملكون القدرة على التنظير السياسي الرصين هم من يشرفون على البناء والإدارة والقيادة فإن الدولة الصالحة والمعطاء والناجحة ستظهر وستنشأ ، وستكون مثيلا لمدينة إفلاطون الفاضلة التي صنف من خلالها المجتمع إلى طبقات حسب المؤهلات والاستحقاقات العلمية وليس حسب الانتماء الطائفي والقبلي أو الانتماء السياسي للحزب والجماعة .