شاكر الأنباريالربيع العربي بثوراته الشعبية، في أكثر من بلد، لم يفاجئ الحركات السياسية والمفكرين والباحثين فقط، إنما فاجأ المثقفين أيضا. هؤلاء الذين ترعرعوا في بيئة أخرى، كانت تتراوح بين الديكتاتورية، والليبرالية الزائفة، وسطوة العسكر، تتحكم في تلك البيئة أجهزة المخابرات، ورجال الأمن، والتجار، والانتهازيون. ترعرعوا وكتبوا ضمن مجتمعات كانت ساكنة إلى حد ما، الفرد فيها منمط إلا أنه يختزن طاقة للتمرد لم يرها الباحثون، والمفكرون، والمثقفون، ولم يستشفوها.
معظم الإبداع العربي كان يتكلم عن ذلك المجتمع، وذلك الفرد، بآليات معروفة متكلسة منذ أكثر من أربعة عقود. التظاهرات الشعبية، والتمردات العفوية، والهزات الاجتماعية، التي كنا شهوداً عليها ظلت غائبة إلى حد ما عن رؤية المثقف. وكانت ظواهر مثل الفيس بوك، واليوتيوب، والتويتر، وغيرها من أساسيات الثورة العلمية، والإعلامية، بعيدة عن تصورات المثقفين، والبعض منهم لم يلامسها أو يستفد من إمكاناتها في التواصل الاجتماعي والتحريض والتمرد، عكس الكتلة الواسعة من الشعب، التي كانت تتحول قليلا قليلاً إلى إعلاميين، ومثقفين عضويين، ومنظمين لتظاهرات، ومؤسسين لمنظمات مجتمع مدني. وهي بمجموعها كانت الرافعة لثورات الربيع العربي. في مصر على سبيل المثال، بدأت معظم المؤسسات الثقافية والتقاليد القديمة تتهاوى أمام ثورة الجموع، فصعدت أسماء جديدة، وغابت أسماء، وتغيرت مفاهيم، ونبتت قصص وروايات ونصوص مختلفة عما ألفه القارئ العربي، والمشاهد عموما. التقاليد الفنية والثقافية والإبداعية السابقة تحطمت، وأخذت البيئة الثقافية تبحث من جديد عن تقاليد موسومة بثورة الشعب المصري. في ليبيا أيضا، تهاوت مهرجانات العقيد ومؤسساته وجوائزه، وبرزت وجوه مغيبة تحاول أن تعكس حقيقة المجتمع الليبي، الحقيقة التي غطى عليها الكتاب الأخضر طيلة خمسة عقود. في سورية، واليمن، والبحرين، وتونس، وغيرها من البلدان، يجري الشيء ذاته، تحطيم البنية التقليدية السابقة للثقافة، هي ورموزها السلطوية، وصعود تيار شبابي جديد، صنع الثورة وشارك فيها، وهو في الطريق لكي يقطف ثمارها. لكن ليس على الطريقة القديمة. ونحن أمام نصوص وأعمال فنية ولوحات وربما أغانٍ، لم تعد ترضى بتكرار الجمل ذاتها، والألوان ذاتها، والمسرحيات ذاتها. تلك بضاعة بارت، ولم تعد تقنع أحداً. إنها تتكلم عن مجتمع سابق للربيع العربي، وتتكلم عن فرد لم يعد موجودا، سواء بهمومه اليومية أم الاجتماعية. البديهية المعروفة أن الثقافة لا تزدهر إلا في ظل استقرار مجتمعي، كونها تميل إلى التأمل، والبحث، والمراجعة، ونقد البنى الثابتة والظواهر، لذلك فصعود موجة ثقافة الربيع العربي لن تتحقق قريبا. ما يجري اليوم هو تحطيم البنى العتيقة، أما التأسيس لبنى مغايرة، وإبداع نوعي، فأمامه فترة زمنية طويلة. حصلت تغيرات عميقة في روح الفرد، تهاوت أمكنة وزالت، رسمت خرائط طازجة، وأصبح ذلك الفرد المهمّش الذي شارك في تغيير تاريخه الخاص، والعام، في بؤرة العالم. صوته راح يسمع في جهات الأرض كلها عبر اليوتيوب، ولم يعد تغييب ذلك الصوت بالأمر السهل. كل ذلك سينعكس على البنية الفوقية التي تتشكل عبر الزمن، ألا وهي الثقافة. المراهنة على ثقافة الربيع العربي هي مراهنة على المستقبل دون أدنى شك.
الربيع العربي يهمّش المثقفين
نشر في: 6 مايو, 2012: 07:35 م