TOP

جريدة المدى > محليات > قصة كردية

قصة كردية

نشر في: 6 مايو, 2012: 08:56 م

 بغداد / عبد الكريم العبيديسألت نفسي، وكنت طفلا في الخامسة م العمر، في منتصف ستينات القرن الماضي عن ذلك المخلوق الليلي الذي كان يجوب شوارع وأزقة الحي وهو يقرع الطبل الكبير المعلق بعنقه بعصا غليظة وقصيرة في ليالي رمضان من كل عام ويردد أبياتا شعرية بلغة غريبة، وكان جواب أبي وأمي انه "كردي" يسكن في أقصى المدينة، وهذا جواب بدا وقتها وكأنه ليس جوابا، فمن هو الكردي ؟ ولماذا لا يتحدث بالعربي؟ ، وهل المسحراتي هو كردي بالضرورة ؟.
كان ذلك الكائن الليلي هو أول ممثل مضبب للكرد في طفولة ذاكرتي، وكانت أول صفة حسنة لهم نقلها لي "سفيرهم" بوضوح، وهي أنهم يوقظون "العرب" من نومهم لتناول وجبة السحور طيلة ثلاثين ليلة!.ولكن، لا أبي ولا أمي ولا السفير الليلي تمكنوا من شرح أسباب غياب بعض آباء وأشقاء الأطفال في محلتي وتواجدهم "في جبال الشمال وبرده القارص"، وكان الجواب الوحيد لطالب جامعي، وكان الأول والوحيد من أبناء محلتي اخترق حاجز التعليم ووصل الى الجامعة، كان جوابه المقرون بابتسامة وديعة حين سألته وقتها، وكنت ابن الستة أعوام: إنها السياسة!!، وهذا ما جعل الكرد بنظري ثالث اثنين: الإيقاظ والسياسة!.في مطلع سبعينيات القرن المنصرم عاد الكثير من شباب المحلة الملتحقين بما يسمى بخدمة العلم إما جثثا أو جرحى أو معاقين، وكانت الأجوبة متنوعة هذه المرة من داخل بيتنا ومن خارجه، فأبي قال: إن "هم" يريدون حقوقهم، و"المذيع العراقي" من داخل الراديو القديم كان يصف "هم" بالـ "جيب العميل"، بينما أصر الطالب الجامعي الوحيد في محلتنا على أن "هم" "أعوان المعسكر الامبريالي الصهيوني ومخططاته الإجرامية ضد أمتنا العربية"!.كانت كل هذه الأجوبة الثلاث لا تختلف إطلاقا عن جواب أبي القديم في تعريف المسحراتي بأنه كردي، وظل الكرد بنظري قوما لا تربطني بهم أي صلة سوى العداء والتوجس والقطيعة، في حين ظل درس اللغة الكردية "الطارئ" في مدرستي، شأنه شأن دروس التربية الرياضية والفنية درسا مجانيا مباحا "لغزو" دروس الرياضيات والفيزياء والكيمياء وغيرها.ولكن حين سنحت أول فرصة ناضجة لي للتعرف على كردي غير "ليلي غامض" كسفيرهم الأول المسحراتي، صنعها لي صديق كان طالبا يدرس في كلية طب البصرة وأقنع زميلا كرديا يدرس معه لعقد حوار ثقافي بيننا، تأهبت متحمسا لعقد أول صحبة مع الكرد وإجراء حوار ثقافي مع سفير ثان لهم، غير أن السفير الجديد كان حذرا ومتوجسا، اكتفى بمصافحتي والتلفت يمنة ويسرى، ومن ثم الاعتذار المفضوح عن مشاركتنا في عقد جلسة ثقافية ودية في إحدى الحانات الليلة. هذه ليست سايكودراما متخيلة عن عقود شهدت نشأة قطيعة متوارثة عن عقود متوارثة هي الأخرى ويسودها العداء والتوجس وموت الحوار الثقافي وطمس معالم الآخر. لقد تغذت أجيال متعددة على روافد هذا البعد القسري والخضوع لخطاب إيديولوجي متعصب يشتغل على أحادية غايتها رفض الاعتراف بالتشكيلة الديموغرافية للعراق ومحو جذور الآخر وعدم الاقتناع بجدوى التعايش السلمي الديمقراطي معه داخل وطن منفتح تعم هويته الجميع، كما ظل "السياسي"، وهذا هو ديدنه في الغالب هو المتسيد للمشهد والمفعل لانقسامه إلى أسرة وطائفة وعشيرة وقومية ومذهب وأمة وأقلية، بينما باتت نظريته الطوباوية والأحادية هي محرك المشهد وصانع تحولاته المتردية طيلة العقود الماضية، وهذا ما أصاب أجيالا متعاقبة بعلل وأمراض متوارثة أبرزها: الخوف الغامض وعدم الشعور بالألم والقرف الشديد والاختلال الوجداني والاختناق والضجر والمرارة والانحراف العقلي والتعصب وربما وصل الأمر إلى إصابة البعض بفقدان لحس المسؤولية الأخلاقية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

لنشر الوعي وتعزيز ثقافة السلام والتسامح.. فعاليات توعوية  في ذي قار لمكافحة
محليات

لنشر الوعي وتعزيز ثقافة السلام والتسامح.. فعاليات توعوية في ذي قار لمكافحة "التطرف العنيف"

 ذي قار/ حسين العامل دعا المشاركون في الفعاليات التوعوية الخاصة بمكافحة التطرف العنيف المؤدي إلى الإرهاب الى تطوير المناهج التعليمية وتعزيز ثقافة التسامح والحوار ونبذ الكراهية، مشددين على اهمية معالجة العوامل الاقتصادية والاجتماعية...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram