صرنا نرفض التوافق والتسويات والمحاصصة. لماذا؟ لأنها تؤخر البلاد وتعرقل الوطن وتؤدي إلى تعثّر المشاريع. إذن ما هو الحل؟ أن نبتلع كل الدولة ونقدمها لحزب واحد وفريق واحد كي يتحرك الوطن بسرعة ولا يتأخر على مواعيده. وافقنا أو أرغمنا على الموافقة، لكن النتيجة أن البلد لا يزال يتعثر.
وهذا ما لا أقوله أنا بل يقوله رئيس هيئة استثمار البصرة في تصريحات للصحافة المحلية. أي النتيجة التي توصّل إليها رئيس هيئة الاستثمار في أكثر مدينة استقطبت استثمارات أجنبية في قطاع البترول تحديدا. وفي مدينة مليئة بالفرص السياحية لقربها من الخليج، والزراعية لوقوعها في ملتقى تقاطع آلاف الأنهار، وصناعية لقربها من الأسواق وطرق الملاحة والمواد الأولية، ولأنها تمثل موئل عمل لأربع محافظات محيطة بها وقد تحولت إلى مركز لعملهم منذ مطلع القرن الماضي.رئيس هيئة الاستثمار في البصرة خلف البدران يقول إن "أسبابا تافهة وتعقيدات إدارية" أدت إلى تأخير تنفيذ الكثير من المشاريع الاستثمارية في المحافظة. الأمر لا ينتهي عند هذا الحد فالتأخير أدى إلى هروب رجال الأعمال و"تخلي بعض المستثمرين عن المضي في إقامة مشاريعهم".البدران يواصل سرد جزء من الحكاية "فالوزارات تمتنع عن تقديم تسهيلات للمستثمرين الراغبين بتنفيذ مشاريع استثمارية في المحافظة، ولأسباب تافهة".نعم، ليس هناك جديد في هذه التصريحات، فمعظم مسؤولي دوائر الاستثمار يرددون هذا الكلام. وسبق لعمالقة النفط القادمين للاستثمار في تطوير حقولنا أن ناموا ليالي طويلة في مطارات بغداد والبصرة لأن موظفين عباقرة أخطأوا في تدوين أسمائهم في معاملة الفيزا. أو لأن مسؤوليهم تعمدوا عرقلة الفيزا "بغضا للمال الأجنبي" أو "حسرة" على عدم فوزهم بحصة في هذا المال تحت شعار "ماذا سأستفيد أنا؟".وتحت شعار إن التعثر والتلكؤ المستمر يجب أن ينتهي، خرج سياسي كبير هنا وآخر بارز هناك وذكروا ان تعثر البلاد سببه التوافق والمحاصصة. الوزراء الحزبيون يعرقلون عمل السلطان ويؤخرونه. والمحافظون الحزبيون لا يتعاونون. والكتل تريد تجويع الشعب وتلويعه من اجل تشويه صورة السلطان غريمهم البارز.لكننا وبعد أعوام من استيلاء السلطان على كل شيء تقريبا. على المال والأمن والنزاهة و7 محافظات، وتطويع معظم الوزراء، وتركيع كل الغرماء... مازلنا نتعثر ونتلكأ. كانت الأمور ذريعة فجة إذن من اجل الهيمنة وحسب. السبب ليس في التوافقات والشراكات، وإنما هو خطأ عميق ونقص خبرة وإهمال وهدر وانشغال بقضايا بعيدة عن الكارثة الحقيقية.اليوم، لا نحن حفظنا الهدوء والاستقرار بالتوافق والتشارك. ولا نحن حصلنا على السرعة والحسم في الملفات الأساسية بعد أن تخلينا عن التوافق والشراكة. لقد جرى ابتلاع الدولة وصارت الكلمة العليا لرجل واحد وفريق واحد. لكن الأمور تتعثر وتتعثر.ماذا تعني الفرص الاستثمارية الضائعة في البصرة وغيرها؟ باختصار فإن آلاف الشباب سيبقون يبيعون العلكة في تقاطعات المدن العراقية ويقنعون ببطالة مقنعة لا تدر عليهم شيئا يذكر. ووراء ذلك "أسباب تافهة" حسب وصف استثمار البصرة، تعرقل الاستثمار وإنشاء المصانع وتدشين المشاريع الإنتاجية.موظف مرتبط بتعليمات مسؤول لا يعترف بالتوافق ويريد أن يسرع ويسرع ويحسم، يجلس في دائرته الكئيبة في الغالب وهو مكبل بمزاج سيئ يفرضه المكان والمحيط والأجواء العامة. ومكبل بألف تحذير وخوف من رشوة، أو مكبل بطمع في رشوة أو شهوة مسؤول تدور حول هذا المشروع او ذاك الاستثمار. الموظف المكبل يختلق أسبابا تافهة ويحرم الوطن من ألف فرصة تقوم بنقل الشباب بائعي العلكة من تقاطعات الطرق المتربة، الى مشاريع حقيقية تشغل الجميع بأشياء مفيدة.كبار الموظفين لا يشعرون بضرورة السرعة. لماذا يسرعون؟ سيفوزون بكل الانتخابات، وامتيازاتهم محفوظة بأمر السلطان، وكل أقربائهم حصلوا على وظائف جيدة. أولادهم لا يبيعون العلكة في تقاطعات العشار او الباب الشرقي. لماذا يسرعون إذن، ولماذا لا تبقى الأسباب التافهة، تؤدي إلى هرب رجال الأعمال. وحين يغادر رجل أعمال مستاء منك، فإنه لن يعود. ولماذا يعود؟كل الكوارث التي تحيط بنا اليوم، تعود إلى "أسباب تافهة". زعماء اليوم سيكشفون عن هذا في مذكراتهم. وبعد 100 عام على الإطاحة بصدام حسين، سندرك أننا كنا نموت لفترة طويلة ونضيع كل الفرص، لأسباب "تافهة" أيضا يا خلف البدران.
عالم آخر:استثمار البصرة و"الأسباب التافهة"
نشر في: 8 مايو, 2012: 09:41 م