اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > شاي عراقي

شاي عراقي

نشر في: 9 مايو, 2012: 08:38 م

سميرة المانعأثناء الحكم العثماني للبلاد العربية، ولأكثر من أربعمائة سنة، كتب بعضهم رسائله عارضاً مشاكله السياسية والاجتماعية بمقدمات كالآتي:"إلى جناب حضرة سامي القدر والألقاب، الأجل الأفخم دفتردار أفندي،  أدام الله تعالى إقباله وأشرق كواكب سعادته وزاد أفضاله… الخ"  في القرن العشرين وما حاذاه، اختلفت الرسائل قليلا، لقد حافظت على  الأسلوب القديم من حيث الكذب والمراوغة لبلوغ الهدف، وإنْ تمّ ذلك مباشرة ومن دون لفّ أو دوران بالمجاملة والنفاق.
على هذا النهج لم تكنْ غريبةً، الرسالةُ الاضطرارية المرسلة من المرأة اللبنانية، إلى موكلها العراقي. كان يملك قطعة أرض صغيرة بمنطقة الحازمية ببيروت، كلفها أن تبيعها له في حالة وجود شارٍ. رسالتها التي بعثت بها إليه على عنوانه ببغداد  بتأريخ 1979 تقول :  "البنت حازمة خطبها رجل برازيلي، وقد تزوجت منه الآن. ذهبت إلى البرازيل كي تعيش معه". انبسطت أسارير الرجل العراقي، رأساً، بعد قراءتها. فَهِمَ المعنى متنفساً الصعداء. إن أرضه التي يملكها بالحازمية قد بيعت وانتهى الأمر. تخلص منها أخيراً. دبّ الفرح إلى قلبه بخفية متسللاً ، خائفا أن يعلنه بوضوح على الملأ  لئلا يفتضح أمره. الحكومة الآمرة الناهية ببغداد لن تغفر له فعلته. إنها لا تقبل أن يكون عند العراقي فلسٌ واحدٌ إلا إذا علمت به، وكيف حصل عليه وأين أخفاه، إلى آخر المعزوفة… أما أن يكون عند العراقي الساكن بالعراق قطعة أرض في بلد آخر فهذه من أكبر الكبائر. جريمة لا تُغتفر. الحكومة العراقية المتسلطة تقف بحزم تجاه هذا الأمر. سيسافر صاحب الملك خارج العراق حتماً "ويلعب على كيفه" كما تتصور. على الحكومة أن تمنع السفر أولاً ناهيك عن البيع والشراء والعقاب جاهز ومحسوم للشخص المدان. ما عليه إلا أن يُهيئ نفسه للسجن والتعذيب، قبل أن يُحكم  بالإعدام لجرائم من هذا النمط الخطير المضر بالمصلحة العامة في قانونها.جاهداً، كبح العراقي فرحه ذلك النهار المشرق بعد أن تسلم رسالة وكيلته اللبنانية. لكنه فضل التطلع في الحيطان بدلا من الوجوه وهو يسير في الطريق العام، متحاشيا نظرات المارة، متوجساً من أن يكون أحد منهم قد قرأ الرسالة اللبنانية، وفهم مضمونها الحقيقي أثناء عملية فتح الرسائل البريدية في دائرة الرقابة الحكومية.  كلما رأى زياً خاكياً أو عيوناً ثاقبة  أو شوارب شوكية سوداء أسرعت دقات قلبه بالخفقان فيحاول، بصمت، تهدئتها. في الوقت نفسه لا تستطيع ذاكرته أن تمحو تراكمات تجارب مرت عليه ولا أمل في نسيانها. قفز أمامه صديق قديم من باب مقفل يعود إلى زمن الشباب فجأة. رآه مجسداً أمامه ممرمطاً. كان يهوديا عراقياً من بقايا فئة هاجر معظمها إلى إسرائيل بعد أن شُجعوا لتسقط عنهم الجنسية العراقية سنة 1948. يهودي خائف مرتعب من أن يبوح بأسراره إلا لثلة من أصدقاء قدامى حوله من كافة الأديان والأقوام ويثق فيهم ثقة تامة . كان هؤلاء الأصدقاء يعرفون أن لديه أخاً صار بإيران الآن، هارباً رافضاً  أن يذهب للعيش بالدولة العبرية عن عقيدة ومبدأ. صار هذا الأخ الهارب فقيراً معوزاً في وضعه الحالي، يكاد يتوسل المارة من أجل الصدقة .  الفترة حرجة في تأريخ يهود العراق أثناء تأسيس دولة إسرائيل واتهام البعض لهم بميولهم الصهيونية. الأخ المسافر يهاتف أخاه داخل العراق بين حين وآخر. يسأله أن يبعث له نقوداً وبسرعة. يستخدم عبارات وهمية رمزية يفهمها الجانب الآخر ويدرك مغزاها بالحاسة السادسة، على افتراض وجودها عند الإنسان. اتفقا، من دون تخطيط مسبق، أن يستعملا لفظة (الشاي) بالهاتف بدلا من كلمة  (نقود) صراحة، من أجل التمويه والتضليل في التعبير عما يريدان قوله فعلا:- لم أتسلم الشاي لحد الآن.-  سيأتيك قريباً أحيانا يهاتف الأخ بالعراق أخاه بإيران كي ينبئه بخبر مفرح :- بعثتُ لك الشاي بيد كاظم .اتصل به على العنوان التالي.الآخر يشكو والثاني يهمز والشاي يُستعمل  في الحوار باطمئنان وحرية.  على غفلة منهما لفتت أسماع الرقيب الحكومي على المخابرات الهاتفية ، في دائرة البرق والبريد العامة ببغداد، مسألة الشاي المتكررة الغامضة. تكفل الرقيب بإيصال النميمة والشكوك إلى السلطات الحكومية المختصة. سرعان ما يُلقى القبض على الأخ في الداخل وهو في خضمّ حواره مع أخيه في الخارج، مكرّراً كلمة (الشاي) جيئة وذهاباً بشوق وحرارة وجدانية.  أُودِع في التوقيف بقرار من الحاكم العسكري العام، محكمين القبضة عليه خوفاً من أن يهرب فيفقدوا الشواهد الثبوتية للجريمة النكراء المتوقع حدوثها وشيكاً. بضع صفعات حارة على صدغيه كانت كفيلة كي توقع الأخ أرضاً مغشياً عليه. عندما استفاق، لم يتمكن من إخفاء حقيقة وجود شقيقه الهارب إلى إيران ودعوته المتكررة له بالهاتف كي يرسل له نقوداً من أجل المأوى والطعام . أمر الحاكم بسجنه خمسة أعوام فقط. قضى ثلاثة منها في السجن ليُفرج عنه في السنة الرابعة مع السجناء الآخرين بموجب مرحمة حكومية جاءت في الوقت المناسب.خرج من السجن وقد بيّت أمراً في غاية السرية والأهمية بالنسبة له. أراد أن يغادر العراق بأقرب فرصة ممكنة. لم يخبر أحداً بالأمر ولا أقرب المقربين إليه من أصدقائه. ابتعد عنهم جميعاً، خائفاً أن

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

في استفتاء موسيقي تنافسي سنوي حصلت إسطوانة “أصابع بابلية” للمؤلف الموسيقي وعازف العود العراقي أحمد مختار على مرتبة ضمن العشر الأوائل في بريطانيا وأميركا، حيث قام راديو “أف أم للموسيقى الكلاسيكية” الذي يبث من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram