أحمد عبد الحسين"أنا ماسك العراق، ولولاي لانفرط العراق".لو نقل لي هذه العبارة أحد ونسبها للسيّد رئيس الوزراء نوري المالكيّ لما صدقته، ولقلتُ أن الكراهية تفعل فعلها في النفوس فتضطرّ أناساً إلى الكذب على المالكيّ وتقويله ما لم يقلْ. لكني سمعتُ ورأيتُ مقابلته أمس الأول، وهالني فيها مقدار استعداد السيّد رئيس الوزراء للبقاء في منصبه مهما كلّف الأمر،
ومقدار استعداده لفتح جبهات متعددة في آن واحد، لكنّ المهول حقاً هذه النبرة الجديدة التي اكتسبها المالكيّ خلال سنوات حكمه، نبرة المنقذ الذي لولاه لغدا العالم مهجوراً، نبرة تترك في نفسك انطباعاً مؤداه: كيف كان الناس يعيشون قبل المالكيّ وكيف ـ يا للهول ـ سيعيشون بعده؟هذا الصوت الملحميّ "أنا ماسكٌ العراق ولولاي لانفرط"، ليس وليدَ تدبّر أو تأمل بأحداث ووقائع، إنه نتاج إصغاء لصوت عميق في الذات، لطبقة نرجسية مترسّبة في اللاوعي لم يُعبَّر عنها طوال عمر قائلها، وها هي تخرج في لحظات تجلٍّ وانتشاء بالقوّة أو في لحظات خوفٍ. ففي سكرة الشعور بالقوّة تخرج تلقائياً من فم الفرد جملٌ هي أناشيد تمجيد للذات وإظهار كلّ فعل من أفعالها بمثابة اجتراح معجزة. شاربُ خمر السلطة يتعتعه السكرُ فيطالب العالم والناس من حوله بأن يظهر امتنانه له لمجرد وجوده.الخائف أيضاً يفعل ذلك، يريد أن يقضي على خوفه ـ أو في الأقلّ يخفف من حدّته ـ فيتسامى بهذا الخوف ويرفعه إلى مصافّ عبادة الذات، فمادام هناك أناسٌ يهددون سلطاني على نفسي والعالم فإن هذا دليل على أهميتي واستثنائيتي.لمثال السكران أتذكر صدام حين قال مرة في الثمانينات: "لو سقط حكمي فسيندم العراقيون جيلاً بعد جيل ". ولمثال الخائف أتذكر القذافيّ في آخر أيامه، وبينهما أمثلة أكثر من أن تحصى.هذا الأمر لا يُشرح ولا يُفسّر بفنون السياسة بل هو متعلّق بعلم النفس حصراً، وكثير من ممارسات الساسة ـ عندنا كما في العالم ـ تثبت أن عيادة الطبيب والمحلل النفسانيّينِ هي الأنسب لتفسير ظواهر الساسة وقراءة خطبهم، ومعرفة الدوافع العميقة لما يقولون ويفعلون، واكتشاف الجذر الغرائزيّ في ما يراه الناس كلاماً سويّاً لهذا السياسيّ أو ذاك.أشير هنا إلى كتاب الباحث الصديق الدكتور فارس كمال نظمي "الأسلمة السياسيّة في العراق" فهو مفيد في هذا الباب، لأن فيه بحثاً بعنوان "سيكولوجيا المنطقة الخضراء" هو أعمق ما قرأته في هذا المجال، لأن قارئ هذا البحث يخرج بنتيجة مؤداها أن سكنة المنطقة الخضراء من السياسيين يتصرفون بما تمليه عليهم أمراض نفسيّة مزمنة، لا بل أن تلك المنطقة كلها تصلح لأن تكون عيادة كبيرة لأشخاص يعانون رضوضاً نفسيّة لا سبيل لديهم لمداراتها إلا بالمزيد من العملقة واستحضار نرجسيّة مهملة وادعاء القوة وشرب خمرها الذي يسكر ويعمي ويصمّ.
قرطاس: عيادة نفسيّة!
نشر في: 11 مايو, 2012: 06:56 م