شاكر لعيبييبدو ملائماً التذكر أن "التنوّع" وليس "الأحادية" هو جوهر الحيوية الثقافية في بلدان العالم أجمع التي تشهد معظمها مناطق وبيئات لها الكثير والقليل من الخصوصيات التاريخية والاجتماعية. لعل العراق من أكثر البلدان تنوعاً لغويا وثقافيا، الأمر الذي شهد، وإنْ بصعوبات في فترات معينة، تعايشا لثقافات متعددة الرؤى ووجهات النظر والتطلعات والأساليب الفنية،
وكل ما يمكن أن يضمن لهذه "الحيوية" الوجود والديمومة. منذ أقدم العصور كان البلد على هذه الشاكلة، وليس وليد العصور التاريخية أو الحديثة. كانت بلاد الرافدين بالأصل أرضا ثقافية تساكن فيها السومريون غير الساميين، والكلدانيون الساميون، ثم البابليون والآشوريون والفرس والميديون وجميع من يُعتبر أسلافا للإيرانيين المعاصرين وغيرهم من الشعوب الأخرى كالحيثيين وتلك المنحدرة من الأناضول بل الأبعد جغرافيا منها. كل هذا كان قبل الخصوصيات الثقافية التي يطالب بها البصريون أو البغداديون أو الموصليون وغيرهم من العراقيين المعاصرين. كان هذا التنوع مصدر قوة ثقافية جبارة بالنسبة للعراقيين، ومصدر "فرقة" والتباس بالنسبة للعرب الذين لا ثقافة أو أثنية بين ظهرانيهم غير أحادية الثقافة العربية.في أوقات الأزمات الكبرى تطفو إلى السطح النزعات الثقافية الضيقة التي، باسم التعدد، تروج للانغلاق أو تمنح نفسها سمات افتراضية غير مبرهن عليها موضوعياً. لنقل بوضوح بأن المراقب للوضع الثقافي في العراق سيلاحظ تضخما واعتداداً بمناطق جغرافية معينة، أُسبغتْ عليها أهمية مفرطة. بدأ الأمر منذ وقت أبعد من اللحظة الراهنة عندما وقعت المراهنة على كركوك الممنوحة دورا شعرياً يماهي بينها وبين جيل الستينيات برمته. اليوم لدينا تضخم وترويج نقدي فج متبادل بين شعراء بقع جغرافية معينة، كالناصرية والبصرة والديوانية والموصل والحلة. هذا أمر جديد لا علاقة له بالتنوع، ولكن بالانغلاق نقيض التنوع. وهو يتوازى مع نزعة قبلية بالتمام، لكن تحت مسمى الشعر النبيل الذي لا يحتمل فجاجة الوعي القبلي بحال من الأحوال.نزعة شعرية جهوية ضيقة الأفق كانت ثقافة العراق دائما اكبر منها. إنها تستفحل بالتوازي أيضا مع استفحال الأزمة السياسية والانغلاق على اتجاهات أيديولوجية ودينية ثابتة لا يحتمل تعدد البلد انغلاقا مثله.قبل شعراء البلد روّج معماريوه من الأرستقراطية المتنوّرة لمفهوم "العمارة البغدادية"، كأنها إنجاز فريد خاص بالعاصمة، في حين تمتد أنساق هذه العمارة حرفيا من شمال البلد في الموصل حتى جنوبه في البصرة، إذا لم نقل أن مخطط المنزل البغدادي بالتفاصيل الدقيقة الممنوحة تفردا متوهَّماً، موجود عينه في الهند وصولا إلى إيران ومناطق الخليج المشاطئة. هذا الإفراط بالخصوصيات المناطقية جعل الشعر يبدو عملا عائليا في بعض الحالات، يدافع أبناء العمومة فيه عن بعضهم ظالما أو مظلوماً، وقد دفع، هو عينه، ناقدا بصريا بارعا إلى تخريج شعرية السياب عبر مدينة البصرة حصريا تقريبا، كأنه ليس وليد هذا الإرث العراقي والعربي والعالمي قبل أي بقعة جغرافية محددة مهما كانت أهميتها. وهذا الإفراط هو نفسه منطلق الكثير من الكتابات الصحفية اليومية والخصومات والتحزبات الأدبية.الظاهرة ليست عراقية محض، ويمكن تلمُّسها في مناطق أخرى في العالم العربي. يميل الوسط العربي والعراقي إلى طمر، أو تجاهل ما لا يمكن الدفاع عنه ثقافياً رغم الجسارة الظاهرية التي يوحي بها. وهو بذلك يساهم في توطينها والتورط بها في نهاية المطاف. وهو ما لا نتمناه لبلداننا.
تلويحة المدى: الشعر والعائلة
نشر في: 11 مايو, 2012: 07:53 م