لطفية الدليمي لا يتحقق عمليا لأي مثقف أن يكون حداثياً وعلمانياً لأنه يستخدم في كتاباته مفردات الحداثة والحرية والعلمانية والموضوعية، فالتحقق شيء والخطاب شيء آخر، التحقق فعل على الأرض، والخطاب نشوة لغوية وإعلان عن النفس في فوضى الصراعات ، ويبقى المرء يدور ضمن مساحة ضيّقة من واقع اجتماعي ضاغط يحاول بعض المثقفين إرضاءه وتملقه على الضد من قناعاتهم المعلنة، وبين انعكاسات ثقافة أخرى مهيمنة على فكره
وقلمه لم يهضمها جيدا ولا تفاعل معها عمليا ولا طبقها اجتماعيا وما تجرأ على اختبارها بل إنه يستخدمها باعتبارها (موضة) دارجة تنفي عنه وصمة التخلف دون أن تكون له يد في إنتاج فكر جديد وطروحات يواجه بها واقعه ومشكلات مجتمعه الفكرية والسياسية والاجتماعية وانصرفت أعداد كبيرة ممن يصنفون في فئة المثقفين إلى الاهتمام بالنقد والتنظيرات الشعرية والأدبية واقتصر مفهوم الثقافة لدى قطاع واسع من الجمهور على موضوعات الشعر والأدب دون غيرها بسبب طوفان الدراسات النقدية والنصوص التي تحتل الصحافة الثقافية، وانبرى كثير من الشعراء والروائيين بالدفاع عن تنظيراتهم ببلاغة عالية وخطاب تعميمي طارحين الأفكار المكرورة حول الشعر والرواية والحداثة ما بعد الحداثة ما أدى الى انشغال المشهد الثقافي بسجالاتهم وعجز المنتج الفكري المحدود عن إنتاج التغيير السياسي والاجتماعي الذي لا يقوم إلا على تغيير المنظومة الفكرية للمجتمع قبل أي مسعى للتغيير. ولا يمكننا أن نحيل ضمور الثقافة والفكر المتجدد إلى القمع السياسي أو تفشي الفكر الأصولي وحدهما، فالمثقفون مسؤولون بهذا القدر أو ذاك عن حالة الجدب الفكري على نقيض المفكرين والفلاسفة الغربيين والشرقيين المثابرين الذين يضيفون الجديد ويحاكمون ما سبق من أفكار وفلسفات وينقضون ما لا يصمد أمام المحاكمة فيجددون دماء الفكر في مجتمعاتهم ذات الحراك المستمر بينما يتداول كثير من مثقفي بلداننا أفكارا ومقولات تجاوزها الغرب والشرق منذ عقود. من جهة أخرى، يهيمن مثقفو السلطة العرب المتمترسون في المناصب التقليدية وإدارة المؤسسات الثقافية على مفاصل الثقافة والمؤتمرات والسياسات الثقافية، فنجدهم في ما يكتبون غيرهم في مواقفهم هناك فصام كبير على مستوى الكتابة والسلوك والأداء فمعظم المثقفين والنقاد العرب مدمني الفضائيات وسدنة المهرجانات وهيئات التحكيم يمارسون انفصالا كاملا بين ما يدعونه في مقالاتهم وخطابهم المعلن من إيمان بالحرية والمساواة والتحضر وما يمارسونه يوميا في علاقتهم بزوجاتهم وبناتهم من ثقافة مجتمع تقليدي بينما يظهرون أقصى درجات التجاوز في علاقاتهم السرية وحضورهم الاجتماعي المختلط ، فتجد واحدهم يأنف من اصطحاب زوجته إلى المحافل الثقافية، بينما يجالس زميلاته ويحاورهن، يدعي العقلانية والعلمانية وتجده طائفيا حتى انقطاع الأنفاس، يدعو الى الحوار والتفاهم وتبادل الأفكار ولا يكف عن الاستعلاء والتحكم في المشهد الثقافي ،يدعو إلى الديمقراطية وصون الحريات ويمالئ المستبد بالمقالات والقصائد والسلوك الطائفي والشوفيني حسب متطلبات الموقف والمنافع فيعيش المثقف ازدواجية مريعة ويتعايش معها بتبريرات شتى، رافضا كل حوار وكأنه يعيش في أبراج بلورية تعزله عن مجتمعه وأقرانه ، ومن جهة أخرى يواجه هجمة المتشددين على فكره المعلن ، ويتحرك في مديات مرصودة من قبل السلطة التي يواليها لكنها لا تطمئن إليه ، ومن قبل التشدد الذي يلاحق كلماته ويشتغل عليها تأويلا وتفسيرا وعندما يحاصره التشدد ليدينه على نص كتبه ويصدر حكمه عليه لا يجد من يناصره أو يدافع عنه في مجتمع نفاقي تغيب فيه أصوات القوى الحرة والحراك النقدي والحراك المدني بسبب التوفيقية التي أضحت سمة بارزة من سمات رموز الثقافة العربية وممالأتهم للسلطة والمتشددين ومصادري الفكر الحر.
قناديل:المثقف: مواجهات مع الآخر والموقف واللافعل
نشر في: 12 مايو, 2012: 07:57 م