TOP

جريدة المدى > عام > غريبويديف والمتنبي

غريبويديف والمتنبي

نشر في: 15 أكتوبر, 2012: 05:29 م

أ.د. ضياء نافع

الكسندر سرغيفتش غريبويديف، أديب روسي، ولد في موسكو العام 1795، وتوفي في طهران مقتولا العام 1829، ودفن في مدينة تبليسي عاصمة جورجيا في القوقاز على الحدود الإيرانية مع الإمبراطورية الروسية آنذاك. وأبو الطيب المتنبي ولد في الكوفة العام 915، وتوفي مقتولا قرب واسط  العام 965، ودفن هناك... والمسافة الزمنية بين الاثنين تسعة قرون ونيّف، وهذا فارق زمني هائل، ولكن بعض الوقائع تجمعهما، فكلاهما ماتا قتلاً في عمر مبكر، وكلاهما – ويا للغرابة- اغنيا  لغتيهما، وبالتالي ثقافة أمتيهما، بالأمثال  والحكم التي جاءت في ثنايا نتاجاتهما، إلا أن هذا – مع ذلك - لا يعني إمكانية الحديث عنهما معا، إذ أننا نقف مبدئيا ضد طرح مواضيع تتناول الأدب المقارن، والتي تستند إلى الاجتهادات الشخصية بشان التأثير والتأثر بين ادباء ثقافات مختلفة وفي عصور مختلفة، ولكننا نؤيد طرح  تلك المواضيع في حالة وجود وقائع محددة وثابتة، وهذا ما وجدناه في بحثنا الحالي، اذ توجد في حياة الاديب الروسي غريبويديف وقائع تسمح لنا بهذا الطرح.
لقد اطلعنا على مقالة المستشرق الروسي المعروف كراجكوفسكي الموسومة (اقتباس عربي في رسالة غريبويديف) ، / كراجكوفسكي – المؤلفات المختارة في ستة أجزاء، الجزء الأول، منشورات أكاديمية العلوم السوفيتية، موسكو- لينينغراد 1953 ص. 157-161 / والتي يشير كراجكوفسكي فيها  إلى أن غريبويديف قد كتب في شباط/ فبراير 1820، رسالة إلى صديقه ب.ا. كاتنين من مدينة تبريز يستشهد فيها بمقطع باللغة العربية ( وينشر المستشرق كراجكوفسكي صورة لذلك المقطع في مقالته تلك) وهذا نصه (شر البلاد مكان لا صديق به)، ويكتب بالروسية بعد ذلك قائلا لصديقه – (هذا شعر عربي يعني، أن التعاسة هائلة، عندما لا يوجد لديك صديق).
يحلل كراجكوفسكي في مقالته تلك هذه الجملة العربية، ويسجل الأخطاء التي وقع فيها بعض الباحثين الروس بشأنها، ولا مجال للحديث عن ذلك هنا، ويصل إلى بعض الاستنتاجات حولها، ومنها أن غريبويديف كان يعرف العربية بشكل ضعيف في تلك الفترة، وهو استنتاج صحيح من وجهة نظرنا، إذ أن المصادر الروسية المختلفة تشير إلى أن الأديب الروسي بدأ بدراسة اللغة العربية بعد وصوله الى بلاد فارس، عندما تم تعيينه في السفارة الروسية هناك، حيث التحق في مدينة تبريز، وهكذا يمكن لنا أن نعلن أن غريبويديف هو أول أديب روسي درس اللغة العربية واطلع على كنوزها.
لم يكن المستشرق الروسي يعرف في حينها ، ان الجملة العربية تلك هي شطر من بيت شهير لأبي الطيب المتنبي، وتشير المستشرقة الروسية آنا اركاديفنا دوليننا في دراسة لها منشورة في بطرسبورغ عام 1994 / روسيا والعالم العربي، دراسات وأبحاث . كتاب صادر عن مكتبة أكاديمية العلوم الروسية وبعثة جامعة الدول العربية في روسيا والمركز الثقافي الروسي – العربي المستقل في سانت بطرسبورغ. ص- 78 -85 / تشير إلى هذه الحقيقة، وكيف أن كراجكوفسكي أجاب في حينه عن تساؤلات المشرف على طبع مؤلفات غريبويديف الكاملة بأنه لا يعرف أصل تلك الجملة، وتكتب  داليننا عن مراسلات كراجكوفسكي مع المشرف المذكور، وكيف انه وجد أخيراً أن هذا شطر من قصيدة المتنبي المشهورة حول سيف الدولة:
واحر قلباه ممن قلبه شيم    ومن بجسمي وحالي عنده سقم
مالي اكتم حبا قد برى جسدي    وتدعي حب سيف الدولة الأمم
إلى أن يقول:
شر البلاد مكان لا صديق به     وشر ما يكسب الإنسان ما يصم
ولا يشير كراجكوفسكي (وكذلك دوليننا) إلى مسألة مهمة في هذا السياق وهي - هل كان غريبويديف يعرف أن هذا الشطر للمتنبي أم لا، ولا يمكننا – مع الأسف الشديد - أن نجيب عن هذا السؤال هنا، إذ أن الإجابة تقتضي الاطلاع على أرشيف عدة مؤسسات روسية منها - أرشيف أكاديمية العلوم الروسية والمكتبة المركزية في موسكو وبطرسبورغ وكذلك أرشيف المكتبة الشخصية لغريبويديف نفسه ،وهذا شيء يكاد يكون مستحيلا بالنسبة لنا، إلا أننا يمكن أن نستنتج، أن المصدر الذي اطلع عليه الكاتب في بلاد فارس كان دقيقا، وان الإشارة العامة التي نجدها في بعض المصادر الروسية، ومفادها ان الجملة التي كتبها غريبويديف هي (حكمة عربية) مسألة غير دقيقة تماما.
إن غريبويديف إنسان موهوب جدا، فقد كان يتكلم بالروسية والفرنسية بطلاقة عندما كان عمره (6) سنوات، وتعلم بعد ذلك اللغة الألمانية وأتقنها عندما كان عمره (9) سنوات وبعدها اخذ يدرس اللغات الانكليزية والايطالية واللاتينية، ثم التحق بجامعة موسكو وأنهى قسم الآداب واللغات وحصل على الشهادة، والتحق مرة أخرى بجامعة موسكو للدراسة في قسم القانون والسياسة وكذلك في قسم الرياضيات والفيزياء، إلا أن هجوم نابليون على روسيا عام 1812 حال دون استمراره بالدراسة ، إذ تطوع في صفوف الجيش الروسي وقاتل بشجاعة، وبقي في الجيش حتى عام 1816، وتم تعيينه في وزارة الخارجية عام 1817 ، وصدر الأمر بتنسيبه للعمل في السفارة الروسية بإيران، وحاول التخلص من هذا التنسيب ولم يفلح، فقرر أن يبدأ بدراسة اللغة الفارسية عندما التحق بوظيفته عام 1818، وفعلا بدأ بدراسة اللغات الفارسية والجورجية والعربية والتركية، إضافة إلى انه كان عازفا ماهرا على آلة البيانو ومؤلفا لعدة قطع موسيقية ما زالت تعزف لحد الآن، وهذه كلها مواهب غير اعتيادية لأديب عاش (34) سنة ليس إلا. هناك خاصية فريدة من نوعها تميزه في تاريخ الأدب الروسي وهي - كتابته لنتاج مسرحي شعري واحد فقط والذي أصبح بفضله واحدا من كبار الأدباء الروس، وتحيط قاعدة تمثاله الكبير في موسكو شخصيات تلك المسرحية الشعرية الموسومة – (ذو العقل يشقى) كما استقرت ترجمتها العربية. إن الترجمة الحرفية لتلك المسرحية الشعرية هي – (المصيبة من العقل) وقد ترجم المترجمون العرب هذا النتاج الأدبي بأشكال مختلفة منها – (المصيبة من العقل) أو (مصيبة من العقل) أو (البؤس من العقل ) أو (الويل من العقل) أو (الشقاء من العقل)...الخ..الخ، إلا أننا ارتأينا أن تكون الترجمة – (ذو العقل يشقى) المقتبسة من بيت المتنبي المعروف – (ذو العقل يشقى في النعيم بعقله....) وذلك لما يتميز به هذا المقطع من شاعرية وبنية لغوية جميلة  تتناسب وتتناغم فعلا مع شاعرية وجمالية التسمية الروسية، وقد تقبل الزملاء حولنا هذه الترجمة، وهكذا أخذنا نتداولها في كلامنا حول هذه المسرحية، وثبتناها في كل ما نشرناه حولها، وهكذا جاءت في مقالة المرحومة أ.د.حياة شرارة في كتابها المشترك مع المرحوم أ.د.محمد يونس الموسوم – (مدخل إلى الأدب الروسي في القرن التاسع عشر) (بيروت 1978 ص. 21 ،22، 23)، ولم نكن قد اطلعنا، عندما اقترحنا تلك الترجمة على مقالة المستشرق كراجكوفسكي ، ولا على الجذور الثقافية للأديب الروسي، وبعد أن تم لنا ذلك، فإننا نميل إلى الرأي القائل باحتمالية أن تكون تسمية المسرحية تلك متأثرة بشكل او بآخر بشطر بيت المتنبي المذكور، ودليلنا في طرح هذه الاحتمالية (واكرر – الاحتمالية)  يستند إلى تحليلنا لطبيعة تسميات وعناوين النتاجات الأدبية في الأدب الروسي قبل غريبويديف وأثناء حياته، إذ أنها تختلف جذريا وجوهريا عن تلك التسمية، فمعظم تلك التسميات كانت ترتبط باسم البطل أو البطلة، أو تقترن بعناوين عادية عامة لا علاقة لها بهذه التسمية الفلسفية العميقة، والتي تحولت الآن الى قول روسي مأثور، بما فيها تسميات نتاجات غريبويديف المبكرة نفسها، إذ أنها لم تخرج عن طبيعة تلك العناوين السائدة عندها وهي – الطالب/ الأزواج الشباب/ عائلتي/ الليالي الجورجية/ ...الخ، وهي عناوين وتسميات لا تحمل الخلاصات الفكرية التي انعكست في تسمية تلك المسرحية الشعرية. ومما يعزز موقفنا تجاه هذه الاحتمالية أيضا هو استخدام غريبويديف لقصيدة المتنبي في رسالته لصديقه، ومن الطبيعي أن تكون دراسته للغتنا العربية أوسع وأعمق من أن تكون مقتصرة على تعلم أوليات تلك اللغة وحسب، إذ أن أديبا موسوعيا مثله لا ترضيه تعلم مفردات بسيطة، بل كان يبحث حتما عن العمق الفلسفي والفكري لها،  وليس عبثا أو صدفة تحول مقاطع كثيرة من مسرحيته تلك إلى أمثال وحكم روسية، وهو شيء تنبأ به بوشكين عندما قرأ المسرحية، إذ أعلن أن نصف تلك المسرحية سيتحول الى حكم وأمثال، ولا يمكن بالطبع لأديب بهذا المستوى الفكري عدم ملاحظة ما في شعر المتنبي من حكم وأمثال خالدة.
إننا نطرح هذه الاحتمالية  أمام الباحثين المتخصصين عامة  ونؤكد ان هذه الاحتمالية تتطلب الدراسة الدقيقة والتفصيلية ، وبعد ذلك فقط يمكن تحديد الرأي الحاسم بشأنها، أي أن الهدف من هذا المقال هو طرح الموضوع ليس إلا، مع التأكيد مرة أخرى، ان هذه الاحتمالية لا تقلل بتاتا من عظمة مسرحية غريبويديف وأهميتها، ولا تعني بأي حال من الأحوال تأثير المتنبي في مضمون المسرحية لا من قريب ولا من بعيد، إذ أن تلك المسرحية تناولت القضايا الاجتماعية والفكرية الكبرى للشعب الروسي في تلك المرحلة، وتحدثت عن العلاقات الإنسانية الخالدة بين البشر، ولهذا أصبحت واحدة من ابرز نتاجات الأدب الروسي ، وليس عبثا أن الشعب الروسي ما زال يقرأ تلك المسرحية ويعرضها على خشبات مسارحه ويستشهد بأمثالها وحكمها، لأنها تجسد الصراع الخالد للإنسان من اجل النقاء الروحي والصدق والحب.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بايدن: اتفاق غزة بات أقرب من أي وقت مضى

خرائط وبيانات ملاحية ترصد 77 خرقاً "إسرائيلياً" لأجواء أربعة دول عربية منذ تهديد إيران

مشعان الجبوري يخاطب "السيادة": اعتذروا والا

أمر قبض ومنع سفر لـ"زيد الطالقاني"

برلماني يكشف آخر مستجدات منصب رئيس البرلمان

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: جولة موسيقية في هامبورغ

الرسام والنحات جواد سليم

ذكاء ChatGPT الاصطناعي وتحديات التعليم العالي

أهمية السيناريو في صناعة الفيلم السينمائي .. في البدء كانت الكلمة ـ السيناريو

معضلة الذكريات الرقمية صوفي مَكْبين*

مقالات ذات صلة

معضلة الذكريات الرقمية صوفي مَكْبين*
عام

معضلة الذكريات الرقمية صوفي مَكْبين*

ترجمة: لطفية الدليمي يشيع نوع من الارباك والخلط في أجواء العوائل عندما تحكى القصص وتعادُ روايتها مرات ومرّات وتكون لها في نهاية الامر حياة خاصة بها لا علاقة لها –ربما- في قليل أو كثير...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram