نصير فليحكلما سمعت شيئاً من أحاديث الشارع العراقي الثقافية عن "لا جدوى الشعر" ولا أهميته... إلى ما ذلك، وهو حديث يصدر عن بعض الشعراء أحيانا (!)، وعن ارتباط الشعر بالسمات السلبية في الثقافة العراقية والعربية مثل الارتجال والعشوائية والعاطفية، والتعامل معه كنقيض معاكس للبحث الجاد أو الفكري والمتراكم والمنهجي، كلما خطرت في بالي صورة معاكسة، وهي صورة الشعر الهامة عندما يكون كاشفا عن أعماق معرفية وإنسانية كبيرة بطريقته الخاصة،
وأكثر ما يخطر في بالي في هذا السياق المكانة التي وضع بها الفيلسوف الشهير مارتن هايدغر الشعر في منزلة متقدمة بين الفنون والآداب ووسائل التعبير اللغوية الأخرى، وبشكل مؤسس على نظرة فلسفية عميقة، وليس على مجرد تفضيل جمالي لهذا الجنس الأدبي أو ذاك. بالطبع هناك الكثير من المفكرين قبل هايدغر تعاطفوا مع الشعر ورفعوا من شأنه، ولأسباب مختلفة، ولكن هايدغر، من بين فلاسفة العصر الحديث، هو أكثر من أسّس لذلك على عمق فلسفي يمد جذوره الموغلة داخل الوجود واللغة نفسيهما، وهو بعد لم يصل إليه الدفاع عن الشعر في ما سبقه. بالطبع المقصود هنا، ليس أي شعر، وإنما ذلك الذي يحمل تلك الأبعاد الخاصة، وبالتالي، فلا غرابة أن يكون ابرز شعراء هايدغر هم هولدرلين وتراكل وريلكه، بالإضافة الى باول سيلان لاحقا. وهنا، ومن هذا المنظار، أود أن أبين أني أعطي بعض الحق لمن يهاجمون حال الشعر في ثقافتنا، من زاوية تسطحه المنفر أو استسهاله الصادم أو مبالغاته ورتابته التي عفا عليها الزمن، أو، من جهة أخرى، التذمر من حقيقة تضخم الشعر على حساب غياب أو شح النتاج في المجالات الفكرية الأخرى (ولو أن الكثيرين ممن يثيرون هذه الأسئلة، هم في الواقع، وكما يقال عادة، "جزء من المشكلة" نفسها، كما انه، في مجال البحوث والدراسات اخذ البعض، ممن لا يملكون ابسط أدوات وقدرات البحث، "يجترحون" "بحوثا" و"دراسات" لا نملك عند قراءتها إلا أن نترحم على الشعر ونواقصه!!). أقول، أتفهم هذا الوضع من زاوية ثقافة تعاني ما تعانيه من مشاكل متجذرة في هيكلها، ولكن الشعر، بحد ذاته، وبصفته الإبداعية الاصيلة (وهو أمر شديد الندرة في ثقافتنا قطعا)، ليس بريئا من اتهامات كهذه فقط، بل بالعكس، يمتلك قدرة خاصة على كشف مناطق من العالم والإنسان يعز التعبير عنها أو الوصول إليها في أجناس أخرى وفي أنماط أخرى من التفكير.لنعد الآن الى موضوع هذا المقال الرئيس ولنتوقف عند بعض اللمحات والفقرات من فلسفة هايدغر عن الشعر واللغة الشعرية، لاسيما في سلسلة محاضراته الفلسفية التي نشرت لاحقا بعنوان "طبيعة اللغة". إن نظرة هايدغر لما يمكن أن تنطوي عليه العملية الشعرية من أبعاد، يمد جذوره في طبيعة نظرته إلى اللغة والفكر نفسيهما، ومن دون ذلك لا يمكن فهم الموضوع. في محاضرته الثانية من سلسلة المحاضرات هذه يستهل هايدغر حديثه بدعوة مستمعيه إلى التفكير في طبيعة اللغة. تفكير كهذا، كما يوضح، لا يشترك إلا بالقليل مع البحث عن المعرفة في مجال العلوم. فهو يحذر مستمعيه من خطر الانطلاق من هيمنة المنهج في البحث والخطاب العلمي. وهو يقتبس قول نيتشه في هذا السياق إذ يقول "أن ما يميز العلم المعاصر هو انتصار المنهج العلمي على العلم!".على الضد من ذلك، التفكير، بما في ذلك التفكير في طبيعة اللغة، مرتبط بقوة بمنطقة فريدة تماما يتواجد فيها الفكر، منطقة لا تخضع لهيمنة المنهج أو تؤسس عليه. التفكير، في نظر هايدغر، لا يخضع حتى إلى موضوع (theme) خاص، ففي علم اليوم، كما يقول، حتى موضوع البحث هو جزء من المنهج. مما يؤيد ذلك انه من بين العلوم المعاصرة التي ازدهرت بعد موت هايدغر، فإن علم الحاسبات يجسد مثالا جليا على سيطرة المنهج على الموضوع، كما يرى هام جوردون. يبين هايدغر انه إذا نظرنا حول منطقة الفكر بتمعن، سوف نلاحظ ما يصفه بـ"وطن" أو "ريف" "country" الفكر مفتوحا في كل الاتجاهات على جوار أو حي (neighborhood) الشعر. هذه الواقعة، واقعة كون وطن الفكر مفتوحا في كل الاتجاهات على حي الشعر، يمكن أن تساعد الشخص في تتبع ممرات الفكر التي تخصه. كيف؟؟. غالبا عندما نقرأ أو نستمع الى الشعر العظيم، مع انفتاح صوب اللغة والأفكار والخبرات المعبر عنها في القصيدة، وميل للتفكير بما قرأنا، مع اهتمام بالعالم، ومتعة الوجود، عنده يمكن لقصائد معينة أو أشعار معينة أن تجذب تفكيرنا وتساعد في إنارة "ممر الفكر" الذي قد يكون شغلنا سابقا. التفكير هو إحدى هبات اللغة، والشعر، جاره، هو هبة أخرى. هايدغر يدافع أن حي الشعر يمكن أن يعرّف بما يسميه "القول"ٍٍsaying) ). من دون "القول"، أي من دون التحدث بلغة خاصة، فان الكائنات الإنسانية لا يمكن ان تفكر، ولا تستطيع أن تؤلف الشعر او تستمع إليه. احد جوانب النبل والعظمة في كوننا بشرا، هو أننا، بالإضافة إلى أن كوننا "مرميين" في لغة معينة منذ الولادة، فإننا ننال هباتها الرائعة، ومن بينها، القول، التفكير، والشعر.أكيد أن المزيد من التوغل في فلسفة هايدغر حول هذا الموضوع يحتاج الى صفحات وصفحات ، وقطعا ان هايدجر كان يؤكد أهمية الشعر في سياق نقده للإنسان المغترب الذي أفرزته الحضارة الغربية، ولكن أكيد أيضا أن ال
أهمية الشعر في فلسفة هايدغر
نشر في: 13 مايو, 2012: 07:12 م