سليمة قاسمالبيت الوحيد في أحد الأزقة الذي لم يفكر صاحبه بتغيير طرازه وبنائه على الطريقة الحديثة، يطلق عليه جيرانه بيت الفكر. صاحب البيت موظف بسيط لا يملك من حطام الدنيا سوى راتبه المتواضع الذي يتقاضاه عن عمله في إحدى دوائر الدولة. كان مستقيما حد اللعنة، عنده خطوط واضحة تفرق بين الخطأ والصواب، فالذنب ليس ذنبه فقد تربى على مجموعة من القيم الاجتماعية دون أن يفكر بالتخلي عنها.
وقيل قديما الطبع غلب التطبع. كان لا يفكر في خيانة مبادئه تحت أقسى الظروف وأن يستغل المال العام في تغيير نمط حياته نحو الأحسن كما تطالبه زوجته بذلك دائما، فهو يرفض الاقتراض أو الارتشاء، وهي أمور طالما حثته زوجته على فعلها دون أن تنجح مدفوعة برغبتها في الحصول على بيت جميل على غرار جارتها.وفي اللحظات التي كانت تفقد فيها أعصابها -على قلتها- كانت تسمعه كلاما جارحا عن أموره التي لم يعرف يوما كيف يرتبها كما يفعل الآخرون، وهو اتهام ضمني بفشله، كان يتقبل كلماتها تلك على مضض ويعذرها في ما تقوله دون أن يفكر بتغيير وضعه ذاك، وهو أمر لا يعجب الكثيرين ممن يجيدون ترتيب وضعهم هذه الأيام حسب الظروف فتميل مواقفهم بميلان مصالحهم. صحيح انه راضٍ عن نفسه لكن الناس يفضلون الثري عليه حتى لو كان لصاً، وهو أمر كان مرفوضا قبل سنوات بسيطة!أما موظف الحسابات فكان نصيبه الطرد حين أخبر رب عمله عن السرقة التي تعرض لها المحل قبل يوم واحد، وانه على استعداد للذهاب معه إلى مركز الشرطة ليدلي بشهادته ضد اللصوص الذين يعرفهم جيدا. لكن رب عمله لم يرد أن يورط نفسه مع مجموعة من اللصوص خوفا على حياته واكتفى بطرد موظف الحسابات الذي أصبح كبش الفداء فعاقب البريء وترك المتهم!وقد فقد أحد الرجال عائلته بالكامل في حادث تفجير حين اصطحبهم لزيارة أهل زوجته في إحدى المحافظات الغربية ، وفي مجلس العزاء ثار الرجل بعد سماعه الكثير من كلمات اللوم والعتاب على ذهابه لتلك المنطقة وصرخ بهم قائلا :أنتم تلومون المقتول ولا تلومون القاتل!وقد دفع والد أحد الأطفال المختطفين مبلغا تجاوز الخمسين مليون دينار عراقي لاستعادة طفله، حاول البحث عن الفاعلين في ما بعد لكنه لم يعثر لهم على أثر، وبعد مرور عام على الحادث، زارهم مجموعة من الأقارب تلبية لدعوة على الغداء أقامها والد الطفل وبعد ذهابهم أخبر الطفل أباه أن احد المدعوين كان عضوا في العصابة التي اختطفته، وانه شاهده أكثر من مرة رغم أنهم أحكموا وضع عصابة على عينيه!قد يكون هذا الطفل الذي تآمر قريبه على خطفه للحصول على فدية أفضل حالاً من ذلك الطفل الذي قتله قريب أمه هو وإخوته الثلاثة الصغار في حضن أبيهم ليقتله هو الآخر بسكين حادة طمعا في سرقة بيتهم! إذن نحن أمام تغير كبير أصاب المنظومة الاجتماعية التي نشأنا عليها منذ سنين طويلة فصرنا نحترم الثري حتى لو كان سارقا ونستخف بالفقير حتى لو كان بريئا ونتّهم النزيه بالغباوة والمرتشي بالبراعة ، فصار الأرعن شجاعا والحليم ضعيفا وفقاً للمنظومة الاجتماعية التي أخذت بالتشكل منذ نهاية الحرب مع إيران تقريبا . "فالحرب تبدأ حين تنتهي" كما يقول نابليون . الظروف غير الطبيعية التي شهدها البلد من حروب وحصار كانت سببا مباشرا في ذلك التغير الذي حدث في علاقتنا الاجتماعية ونظرتنا للأمور وطريقة الحكم عليها، كل ذلك أدى بمجموعه إلى قلة الوعي وحدوث خلل في البناء العائلي، الأمر الذي نتج عنه أجيال فاقدة للتجذر الثقافي الصحيح وتم إقصاء القيم الأخلاقية من حياتنا اليومية.ونحن بحاجة اليوم إلى إعادة بناء ما خربته الحروب والحصار في نفسية المواطن بتضافر جهود الجهات ذات العلاقة مثل وزارة التربية لتضمين مناهجها مواد تتحدث عن القيم الأخلاقية وأهميتها في بناء المجتمع، إضافة إلى دور منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام.
هل انهارت منظومتنا الاجتماعية؟
نشر في: 14 مايو, 2012: 07:00 م