فريدة النقاشrn يتوافق الرئيسان «مبارك» و«عباس» حول المنابع الفكرية التي يبنيان على الأساس منها مواقفهما السياسية وذلك في واقعتين متزامنتين، الأولي هي الحديث الذي أدلي به الرئيس «مبارك» لجريدة القوات المسلحة في ذكري انتصار أكتوبر، والثانية هي مساهمة رئيس السلطة الفلسطينية محمود «عباس» في إجهاضه تقرير يفضح الممارسات الوحشية في حربها علي غزة في يناير الماضي
وهو تقرير القاضي اليهودي من جنوب إفريقيا جولدستون الذي كلفته لجنة لتقصي الحقائق تابعة للأمم المتحدة عن حرب إسرائيل ضد غزة لفضح ممارسات إسرائيل، وإذا بالسلطة الفلسطينية تتقدم في اللحظة الحرجة لحظة التصويت علي القرار، وذلك التصويت الذي كان مقررا أن ينقل المسألة إلي مجلس الأمن وإلى محكمة الجنايات الدولية ومجلس حقوق الإنسان.. فترفضه.rnفي الواقعة الأولى قال الرئيس «مبارك» في معرض تدليله على ضرورة استئناف مفاوضات السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل إن اليأس يطلق العنان لحلقات مختلفة من العنف والعنف المضاد فساوى بين الجلاد والضحية، بين الاستعمار والواقعين تحت هيمنته.rnأما رئيس السلطة الفلسطينية فطالب بوقف التصويت وتأجيله، وقيل علنا إن هذا الموقف هو موقف أمريكي - فلسطيني بدعوى أن السلطة الفلسطينية «لا تريد أن تضع عقبات في طريق المفاوضات» على حد تعبير السفير الفلسطيني لدى الأمم المتحدة إبراهيم خريشة.rnينطلق قول الرئيس «مبارك» وممارسة الرئيس الفلسطيني ممثلا في مندوبه في الأمم المتحدة من الفلسفة البراجماتية الرديئة التي ينظر ممارسوها ودعاتها إلى الأمور من تحت أقدامهم ويفرحون بالإنجازات الصغيرة خصما من الأهداف البعيدة وابتعادا عن القيم والمبادئ التي من المفترض أنهم يسترشدون بها في عملهم كله.. بل إن هذه البراجماتية والتي تختلف تماما عن المرونة في السلوك وعن الانتصار للطابع العملي الذي يحقق نتائج على المدى القصير، تخدم أهداف المدى البعيد.. فمثل هذه البراجماتية الرديئة تؤدي إلى نسيان الاعتبارات الأساسية الكبرى من أجل المصالح اليومية العابرة لهاثا وراء تحقيق نجاحات مؤقتة، والتخلي عن مستقبل الحركة من أجل حاضرها، وتقديم تنازلات دائمة والمساواة الظاهرية بين المواقف والقوى المختلفة فلا يكون هناك معتد وصاحب حق، مجرم وضحية للإجرام.rnفوصف كلاً من الاحتلال ومقاومة الاحتلال بأنهما عنف يضع الجلاد والضحية علي قدم المساواة، بل ويقدم للجلاد برهانا علي مشروعية موقفه وممارساته بل وخرافاته خاصة في حالة إسرائيل التي تدعي حقوقا تاريخية ليست لها.rnوممارسة السلطة الفلسطينية في الأمم المتحدة سواء بقرار منها أو تحت الضغط الأمريكي - الإسرائيلي هي مقايضة بين استئناف مفاوضات مشكوك في آلياتها ونتائجها، وبين أكبر عملية فضح عالمية للاحتلال باعتباره احتلالا ولممارساته الوحشية التي استمرت طيلة ستين عاما وهي أيضا تأكيد لمشروعية مقاومة الشعب الفلسطيني لهذا الاحتلال بكل الوسائل، فضلا عن أن عملية الفضح هذه تفكك بل تدمر ثقافة الحصانة التي تحمي إسرائيل باعتبارها دولة فوق القانون، وقد تراكمت ثقافة الحصانة هذه على مدى عشرات السنين تحت مظلة الحماية التي تمنحها القوى الإمبريالية المتعاقبة لإسرائيل ضد شعب محاصر وجائع ولا يملك الآن - بعد التخاذل العربي - سوى إرادة مواجهة الاحتلال بكل ما يملك من أدوات، وكان تقرير القاضي «جولدستون» يفتح له أبوابا مشرعة على المستقبل لحشد التضامن العالمي الذي كان قد اهتز تحت ضربات التحولات وسقوط المعسكر الاشتراكي والقوة المتزايدة للصهيونية والعجز العربي.rnتكشف هذه العقلية البراجماتية الرديئة أيضا عن عمق الخضوع للأوامر الأمريكية، والعجز الفاضح عن التعامل مع الإدارة الجديدة بندية وصراحة بدلا من الانصياع لما تمليه حتى إذا كان هذا الذي تمليه يتنافى كلية مع الحقوق المشروعة وقرارات الشرعية الدولية وكل ما سبق أن أقره الضمير الإنساني المشترك من قيم عليا وعلى رأسها حق المظلومين في مقاومة ظالميهم، وحقهم أيضا في أن يتعرف العالم كله عبر مؤسساته الجامعة على قضاياهم ليساندها كل الشرفاء وذوو الضمائر على امتداد المعمورة.وهكذا يسهم العرب والفلسطينيون بالبراجماتية الرديئة في وضع أسس جديدة لثقافة الحصانة التي تحمي عدوهم وتضعفهم
ثقــافـــــــة الحصــانـــــة
نشر في: 13 أكتوبر, 2009: 05:04 م