 عبد الكريم العبيديهل "تمط أرجلها الدقائق" في بغداد!؟. ربما. لأنها تسبت داخل الإحساس اليومي الراكد فيها. وتستيقظ مرارا في لحظة هلع واحدة من داخل مواقع الانفجارات وإغلاق الطرق والجسور، ومرور الأرتال العسكرية والاختناقات المرورية المتكررة ونهارات وليالي حظر التجوال.وغالبا ما يكون استيقاظها مملا ومقيتا حين تندلع "أسئلة الساعات" داخل سيارات الأجرة، وعلى الطرقات وعند أطراف الجسور المغلقة.
وكثيرا ما يبتلى حاملو الساعات بذلك السؤال الوقتي الجماعي الشهير "بيش الساعة؟. ساعتك بيش يابه؟. فدوه الساعة اشكثر؟". ولكن حاملي الساعات سرعان ما يعزفون عن ترديد إجابات ساعاتية كاملة، مكتفين بردود "دقائقية مفتوحة"، مثل "إلا خمسه.. ونص إلا دقيقتين.. ونص وخمسه.. تقريبا إلا ثلث....". ومثل هذه الأجوبة قد تعني بالضبط أن "الدقيقة البغدادية" تمط أرجلها بالفعل.تبدأ الساعة بحرف السين. وهو من الحروف الأسلية. ويقال له حرف تنفيس لأنه ينقل المضارع "الحال" الى الاستقبال. والساعة: جمع سياع وساعات. والتصغير سويعة أي ستون دقيقة. وهي آلة يعرف بها الوقت. وقد تعددت وتنوعت بمرور الزمن، فمنها الساعة الرملية والشمسية والأوتوماتيكية والكهربائية. أما الدقيقة، فجمعها دقائق، مؤنث الدقيق "سدس عشر الساعة". والدقة هي الضبط والإحكام. والمدقق هو من يثبت الدليل بدليل دق طريقه لناظريه. والثانية: عشر سدس الدقيقة. وأصلها ثنن. وهي الشعرات التي في مؤخر رجل الفرس.العراقيون مولعون بتوقيت "غرينتش" ويسمونه "اكرنج". وقد نحت هذا الاسم الشهير في ذاكرتهم. وبات مدلوله يشير الى الإتقان والجزم والضبط. وصار مضربا للأمثال وغاية في دقة الوعود. فإذا قال العراقي لصاحبه:"انطيك كرنتي به" فهو واثق تمام الوثوق بما قال، استنادا الى شهرة دقات ساعة بيغ بن الواقعة في منطقة ويست مانيستر في العاصمة البريطانية لندن. وفرضت "الساعة" سطوتها على الأغاني العراقية القديمة. وتغنى المطربون بالكثير من الأغاني التي تتحدث كلماتها عن موضوعة الوقت وفوات الأوان وتقلب المشاعر وغيرها.. وما زال الكثير من العراقيين يرددون "أغاني الساعة" القديمة مثل" على ساعة تفاركنه ما دام الوكت النه. وكل يوم الك ميعاد كل ساعة الك راي. وفات من الوكت ساعات والموعد زمانه فات ما ظنينه يسمر ما تجينه. وليش الوكت يمك يخلص بساع".وفرضت الساعة وجودها في الأمثال الشعبية العراقية أيضا. فحين يصف البعض جمال المرأة العراقية يقول:العين ساعة والوجه جماره.ويزعم أحدهم أنه سيتحكم بآخر غير ملتزم في عمله فيقول:راح أخليه يشتغل مثل الساعة. وكثيرا ما يصرخ أحدهم محتجا: دقيقة. خلي نفتهم شكو ماكو؟.. ويضجر العراقي من صديقه أو من زوجته فيقول:ساعة السودة الجمعتني بيك. أو ساعة كشره من عرفتك.ويصبر العراقي كثيرا وينتظر الفرج فيقول: متدوم، على ساعة وتنقلب من فوك ليجوه".وعودة الى "بيش الساعة"؟. فهذا السؤال لابد أن يحاصرك به البعض في شوارع بغداد، حتى لو كنت تنوء بحمل جهاز ثقيل. ولذلك على حامل الساعة أن يكون حذرا ومتأكدا من أن ساعته "شغالة"، وإلا سيتعرض لموجة من التندر والسخرية.فإذا فوجئ حامل الساعة بتوقف ساعته واعتذر للسائل رد عليه السائل قائلا"امخليهه خريعة خضره". وإذا اكتشف أن توقيت ساعته متقدم كثيرا على الوقت قيل له "لازم ساعتك تمشي ع السريع. أما إذا كان توقيت الساعة متأخرا فسيقال له" ساعتك تكرط اشعير".وقد يسأل بعضهم صبيا يحمل بيده ساعة عن الوقت فيجيبه الصبي ساخرا:"الساعة بالساعة، والميل ع الدقائق". أو يسمع مثل هذا الجواب"مثل هيج وكت البارحة. ويعتز البغدادي بالساعة القديمة التي كانت بحوزة أجداده ويفتخر بها كثيرا. ومن الطرائف، يروى أن مواطنا بغداديا قال متباهيا:"فقد جدي ساعته الفاخرة ـ تعمل بالكوك ـ أثناء عبوره نهر دجلة بالقارب. وبعد عشرين عاما عثر عليها أحد الغواصين ووجدها "شغالة" فعرضها للبيع واشتراها جدي بضعف سعرها القديم اعتزازا بها!.. فرد عليه بغدادي آخر قائلا: ولكن جدي غاص بنهر دجلة لأكثر من عشرين عاما ثم فاجأ الناس وخرج حيا!..فصاح الأول معترضا:20 عام؟..ماذا كان يفعل فيها؟.. فأجابه الثاني ساخرا: كان "يكوك" بساعة جدك!!."