سرمد الطائيبقاء رئيس الحكومة نوري المالكي في منصبه لا ينبغي ان يجعل خصومه وجمهورهم يصابون بالهلع ويشعرون بالحسرة، رغم ان المخاوف من تضخم فريق الحكومة وتغوله لا تزال قائمة وتستدعي ان نقلق. لكن هناك أمرا اكثر اهمية من "سحب الثقة" هو وضع قواعد لـ"كبح جماح" السلطان، وهذه عملية ينبغي للجميع ان يقاتلوا لانجاحها سواء بقي المالكي أم جاء غيره.
هناك من يضع الرهان اليوم على مقتدى الصدر في هذا الاطار باعتباره صاحب "الكتلة القوية" داخل التحالف الشيعي وصاحب "المهلة المثيرة" داخل هذا التحالف. لكن هذا البعض يخشى ان يتكرر تراجع التيار الصدري عن معارضة المالكي كما حصل عام 2010 حين قال بواقعية بدأ يتقن استخدامها: "السياسة لا قلب لها". وهناك من يخشى انقساما في موقف العراقية، او ضغوطا تمارسها واشنطن وطهران على اربيل والنجف لابقاء المالكي.كل هذا وارد، بل حاصل احيانا، لكن علينا ان نشعر بقليل من السعادة لسببين. يتعلق الاول بالصدر نفسه، ويتصل الثاني بمعنى اجتماع اربيل.اما الصدر فقد صرنا نسمع منه حديثا بمستوى صياغة "استراتيجية" وخطة شاملة، ويبدو انه قادر على الانصات لاشخاص يفكرون بطريقة معقولة، على عكس رئيس حكومتنا الذي لم يعد يصغي الا لعدد محدود من الناس، وهذه مفارقة كبرى بالطبع.الصدر قال ان تحركاته المتضامنة مع مطالب الكردستاني والعراقية، هدفها ان تمنع تحويل الشيعة الى فريق معزول. الصدر يحاول ان يؤمن بأن البقاء المطلوب على الكرسي هو الذي ترافقه قناعة الاطراف الاخرى والذي تدعمه علاقات وطنية متينة بلا اخضاع. والصدر والمجلس الاعلى ايضا، يؤمنان ان ذلك ممكن، وانه ضمانة لبقاء العراق، عراقا، وانه منطلق لحل الخلافات الرهيبة حول الثروة والسلطة. ان كل تنازل يقدمه الشيعة سيعني تعزيزا لدور حكومة الشيعة، كمظلة للجميع. وهو امر سيقدم صورة متوازنة الى الدنيا، ويهدئ "العفاريت" من كل الطوائف.كلام الصدر وجزء آخر من الشيعة يعني ان اضطهاد الاطراف الاخرى والبقاء على الكرسي "رغما عن الحلفاء"، باستخدام اوراق ضغط "بترولية ونووية"، سيعزل الشيعة ولن يقويهم، وسيمنحهم حكما فاقدا للشرعية الوطنية، رغم حصوله على شرعية انتخابات.لكن فريق رئيس الحكومة يؤمن حتى الان بالبقاء على كرسي الحكم "رغم انف الجميع". ويعتقد ان "عزلة الشيعة" ستأتي بسلبيات "مسيطر عليها" اي مقبولة الثمن، لأن "عزلة الشيعة" مفيدة في "توحيد الصف الشيعي" خلف المالكي وبأي ثمن. وحين تفتقر لاي منجز تنموي فإنك تبحث عن "معركة كبيرة" مع الكرد والسنة تكون "منجزا" امام الجمهور الشيعي!مشاورات اربيل اكدت لنا ان قوى شيعية مؤثرة لا تفكر مثل المالكي في هذا الاطار. وهذا امر مفرح بالتأكيد.الامر الثاني المفرح هو ان التحركات الاخيرة لخصوم المالكي يمكن ان نعتبرها اعلانا لظهور اول مجموعة ضغط من زعماء الكتل هدفها كبح جماح رئيس الحكومة. وهذا ما يحصل لأول مرة بعد انسحاب اميركا، وربما هي اول مجموعة ضغط تظهر "بهذا التنظيم والوضوح" منذ سقوط صدام حسين.الدستور لم يكن كافيا لكبح جماح المالكي وسياسة التفرد التي يؤمن بها. والفصل بين السلطات لم يكن كافيا، ودروس حقبة صدام حسين السوداء لم تكن كافية ايضا. والامر الوحيد الذي يمكنه التخفيف من "غلواء التفرد" حاليا، هو ظهور عرف سياسي يصوغ "قواعد كبح الجماح" التي بدأ المالكي يستوعبها للمرة الاولى، رغم كل مكابرته ورفضه وتعامله الهازئ معها.اننا امام تحول مهم لتعزيز التعددية السياسية قد يجعل ضغوط كتل البرلمان تعمل بشكل صحيح وتكبح جماح الحاكم. والدرس الذي يمكن ان يتعلمه السلطان من طريقة عمل هذه الضغوط هو درس لا يخص المالكي، بمعنى ان وجود تقاليد مؤثرة لبناء "الكوابح"، سيجعل اي رئيس حكومة يفكر الف مرة قبل ان يندفع نحو سلوك متفرد وارتجالي، كما سينظم العمل المرتبك داخل البرلمان.نتائج اجتماع اربيل كانت "اختراقا" حتى لو لم يسقط المالكي، والجهود التي بذلت خلال الشهور الماضية لن تنتهي بالضرورة بتنحية رئيس الحكومة، لكن الاكثر اهمية هو ظهور صيغة شيعية معتدلة لفلسفة الحكم، وبلورة "لوبي" من عيار ثقيل لكبح جماح السلطان. وبالتأكيد فإن القدرة على صناعة "كوابح" تشذب عمل الحاكم، اكثر اهمية من القدرة على عزله.
عالم آخر: الأهم من إسقاط المالكي
نشر في: 14 مايو, 2012: 08:40 م