احمد المهنايغمرني الأستاذ الدكتور عبد الكاظم ماجود، بين فترة وأخرى، ببعض التعقيبات الكريمة على كتاباتي. وفي بعض الأحيان يفيض كرمه علي الى درجة تفوق استحقاقي. وليس في وسعي الا التعبير عن شكري له وامتناني لانطباعاته المشجعة.
وفي آخر تعقيب له ابدى اعتراضا في محله، لقولي ان العرب بعد اندفاعتهم الكبرى في الفتح استفادوا من نظم واساليب في الادارة كانت موجودة في البلدان التي فتحوها مثل العراق. ولم يكن هذا الرأي بالذات موضع اعتراضه، وانما "ما قد يوحي به" هذا الرأي من أن "القوم الوافدين اختلطوا بأهل الأرض [العراقيين] وتحاضروا معهم". والحقيقة هي كما يقول الأستاذ ماجود، فان الاختلاط لم يقع بين الارستقراطية العربية الحاكمة وبين العامة من العراقيين. وهؤلاء كانوا في معظمهم من الموالي، اي ممن أسلموا من غير العرب.وفي كتابه (ضحى الاسلام) يختصر أحمد أمين نظرة الفاتح العربي الى أهل البلدان المفتوحة بهذه الكلمات:" العربي..يشعر في أعماق نفسه بأنه من دم ممتاز، لم يؤمن بعظمة الفرس والروم مع ما له ولهم من جدب وخصب، وفقر وغنى، وبداوة وحضارة، حتى اذا فتح بلاهم نظر اليهم نظرة السيد الى المسود".وشأن نظرتهم الى الأقوام الأخرى نظروا ايضا الى المهن، فعدا الحكم والقتال وأخبار العرب وأيامهم وحكاياتهم، لم يهتموا بشيء آخر. ولذلك كان نصيبهم محدودا في بقية الأعمال والعلوم، بما في ذلك الفقه واللغة والتاريخ والفلسفة، بينما جاءت "من الموالي" معظم وأهم الاسهامات الفكرية والعلمية في الحضارة العربية الاسلامية.ويروي صاحب العقد الفريد حكاية معبرة عن نظرة العربي الى الموالي والمهن معا. يقول ان مولى قال لزاهد عربي "لا كثر الله من أمثالك"، فرد عليه بالقول:" كثر الله فينا أمثالك". وسأل أحدهم ذلك الزاهد "أيدعو عليك وتدعو له؟"، فقال" نعم يكسحون طرقنا ويخرزون خفافنا ويحوكون ثيابنا"!هكذا تكلم زاهدهم فكيف بأمرائهم وفرسانهم؟ولكن "الاختلاط" شيء، والاستفادة من النظم والقوانين شيء آخر. فانتقال العرب من الدولة البسيطة الى الامبراطورية، خاصة في العصر العباسي الأول، تم من خلال استعارتهم النظم المادية والفكرية للنموذج الامبراطوري الفارسي. وشمل ذلك تنظيم الجيوش، والاستخبارات، والاقتصاد، و"قوانين الملك والمملكة، وترتيب الخاصة والعامة، وسياسة الرعية" بتعبير الجاحظ.وهذه المرونة في أخذ المتأخر عن المتقدم تحسب للعرب. فقد انتقلوا من وضع متخلف الى أفضل ما بلغه العصر يومذاك بسرعة قياسية. ان الايديولوجيا الامبراطورية السلطانية كانت هي الصيغة المتقدمة في ذلك العصر. واستوعب الخليفة أن تبنيها يصب في مصلحة سلطانه، فتعصرن من دون تردد أو خوف كالذي نعهده اليوم في حكوماتنا وشعوبنا.لقد تقبل الخليفة العباسي النموذج الامبراطوري الفارسي لأنه زاده قوة وسيطرة وغلبة وتفوقا. أما رياح النموذج الحضاري الغربي المعاصر فليست مؤاتية لنماذج السلطات السياسية والاجتماعية التي تستمد قواها من الماضي. فالحضارة الحديثة تنقل السلطان الى قوى جديدة ذات قيم جديدة، يوضع فيها المحكوم على قدم المساواة مع الحاكم أمام القانون.والحال فانه لا السلطة المستمدة من الغلبة والاستيلاء مستعدة للتنازل عن امتيازاتها والتسليم بهذا المنعطف، ولا "روح الشعب" صفت حساباتها مع الماضي، وتخففت من أعبائه لتتحرك بسرعة نحو المستقبل.
أحاديث شفوية: العرب و"الموالي"
نشر في: 14 مايو, 2012: 08:50 م