أحمد عبد الحسينأسوأ الناس هم الفاشلون، وأسوأ الفاشلين مَنْ يعلّق فشله على نجاح الآخرين، لأنّ أشخاصاً كهؤلاء يقضون أيامهم ولياليهم وفي بالهم أنهم فشلوا لأن أناساً سواهم تمكنوا من النجاح في ما فشلوا هم فيه، وبدلَ أن يخلدوا إلى ذواتهم ويسائلوها، في وقفة صريحة مع أنفسهم،
عن السبب الذي يجعل كلّ أعمالهم محفوفة بفشل ذريع، تراهم يفتشون عن ذرائع وحجج؛ الغرض منها تطمين ذواتهم والإيحاء لها وللآخرين أن خيبتهم مرتبطة بنجاح حققه آخرون هنا أو هناك.تذكرتُ هذه المعادلة المريضة اليوم وأنا أقرأ خبراً في "المراقب العراقيّ" نقلاً عن رئيس لجنة الثقافة والإعلام في البرلمان علي الشلاه قال فيه "ان وزير التجارة أسهم في إلغاء معرض الكتاب الثاني لأن هذا الوزير "متعاطف" مع إحدى دور النشر التي تقيم معرضاً للكتاب في أربيل، وهذه الدار لديها توجه لإعاقة حركة الثقافة في البلاد"!هذه الإستراتيجية التي يتبعها الفاشلون عادةً في الضحك على أنفسهم قبل الآخرين، تأكدتْ في خبر آخر نشرته الدستور نقلاً عن فائز الشرع وهو عضو في اللجنة التحضيرية لمعرض بغداد الملغى، وفيه أن إلغاء المعرض جاء "بسبب دار نشر معروفة تقيم معرضاً مماثلاً في أربيل، لأن هذه الدار ـ بحسب الشرع ومن قبله الشلاه ـ سعتْ إلى تعطيل هذا النشاط الثقافيّ المهمّ".أظنّ أن الوقت قد حان ليقول أحد ما لعلي الشلاه إن العمل الثقافيّ يزدهر بالمنافسة، وليفهمه أن جوهر الحراك الثقافيّ يكمن في تعدد الفعاليات وتباين توجهاتها واختلاف منابرها، وان مؤسسة "المدى" ربما كانت في كلّ فعالياتها التي أقامتها كاشفة عن فشل الأداء الثقافيّ الرسميّ لكنّها لا يمكن أن تكون مسببة لهذا الفشل إلا في ذهن أشخاص كالشلاه، يريدون أن يظلوا فاشلين ويريدون مع ذلك أن نسميهم منقذين وقادة للثقافة العراقية.نعم. كشفت مؤسسة "المدى" مقدار سذاجة ما يقوم به الرسميون من فعاليات، ومقدار قلّة الخيال والوعي لدى القائمين على هذه الثقافة، وهي سذاجة يكتنفها كثير من اللغط حول أموال طائلة تبعثر هنا وهناك على مشاريع أقلّ ما يمكن أن يقال عنها أن فيها من الريبة بقدر ما فيها من البؤس والفوضى والارتجال.الرسميون ـ ومن بينهم الأخ الشلاه طبعاً ـ يصدرون في كلّ ارتجالاتهم الثقافية التي تكلّف ميزانية الدولة الكثير، من فكرةٍ كانتْ الآلة الإعلاميّة للديكتاتور السابق تكرّسها وتنوّع عليها، مؤداها أن الثقافة وُجدتْ لتحصين كرسيّ الحكم، ولتسويق فكرة الحزب، ولجلب الكتبة واستدعاء المادحين وخلق مهرجانات ردح تتغنى بالعهد الذهبيّ الميمون. ويبدو ان الفكرة ذاتها ما زالتْ شغالة في أذهان البعض إلى اليوم فهم لا يحسنون سواها، لأن مهرجاناتهم وفعالياتهم كلها تصبّ في هذا الاتجاه، وهذا التوجّه بالذات هو ما حطّم ثقافة العراق سابقاً في زمن تسلّط الديكتاتور وابنه على الثقافة العراقية، وهو ذاته ـ يا صديقي علي الشلاه ـ ما يحطّ من قدر ثقافتنا اليوم في زمن متسلطين جدد قدماء.نجحت "المدى" في معرض أربيل بشهادة عرب وأجانب وعراقيين، رسميين وغير رسميين، وبشهادة الحضور اللافت الذي كنا شهوده، وأيضاً بشهادة الشلاه نفسه الذي رأى في نجاح "المدى" سبباً لفشله. نجحت "المدى" هناك كما نجحت من قبلُ في أسابيعها وفعالياتها في المتنبيّ وإصداراتها ومهرجانها السنويّ وفي ندواتها الفكرية وفي دفاعها عن الثقافة والحريات العامة. ولم يكن في حسبان المدى أن لنجاحها صدى سيذكّر الفاشلين بفشلهم كلّ آن. لن نسأل عن أهمية وجدوى مهرجان بابل الأخير الذي أشرف عليه الشلاه شخصياً، مهرجان مُهّد له كلّ شيء ليكون ناجحاً: سلطة مطلقة وأموال لا تعد ولا تحصى ومباركة حكومية وتسهيلات ودعم من أعلى المسؤولين في البلد لكنه مع ذلك كان متوجّاً بالفشل كالعادة.لن نقول انه ـ كسائر ما يفعله الرسميون ـ فاشل لأن القائمين عليه تحالفوا مع الفشل، لكنّه فشل وستفشل فعاليات أخرى وأخرى لأن القائمين عليها يكرهون نجاحات الآخرين ويرون فيها علّة كافية لأن يظلوا دائماً وأبداً في الصفّ الذي يُخفق في كلّ أفعاله ويريد لنا أن نصفق لإخفاقه العظيم.
قرطاس: جناية "المدى" علي الشلاه ورفاقه
نشر في: 15 مايو, 2012: 06:25 م