احمد المهناوضعت الأزمنة الحديثة مقياسا للتفريق بين الانسانية وبين الهمجية. بين المجتمع الانساني والمجتمع الهمجي. هذا المقياس هو "الاعلان العالمي لحقوق الانسان" الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1948. انه المرآة التي يستطيع من خلالها كل مجتمع أن يرى نفسه، ويعرف أين توجد، في صوب الانسانية، أم في صوب الهمجية.
وليس القصد من هذه الرؤية ادانة النفس أو تبرئتها، ذمها أو مدحها، تقديرها أو تبخيسها. وانما الهدف هو معرفة النفس. وعلى هذه المعرفة تتوقف قدرة التمييز بين الانسانية والهمجية. ولم يكن تاريخ الانسان قبل ذلك الاعلان الشهير كله همجية ولا كان كله انسانية. لقد كان ومازال خليطا من الوجهتين. ولم يصدر ذلك الإعلان ليقرر ان صفحة الهمجية انتهت وبدأت صفحة الانسانية، وانما كان إعلانا غير مسبوق عن نية حكومات العالم العمل بمبادىء تحفظ كرامة الانسان.وهذه "النية" دخلت حيز التنفيذ بالجملة لدى مجموعات بشرية، ودخلت بالمفرق لدى مجموعات أخرى. ولكن لا أحد، لا أحد على الاطلاق، يقول لك اليوم انه ضد حقوق الانسان حتى اذا كان في الحقيقة وحشا. وهذا يعني أنها أخذت مقام "سلطة معنوية" عند جميع سكان الكوكب، فهي محترمة، بطريقة أو أخرى، من جميع المجتمعات، وان كان الكثير من هذه المجتمعات يدوس بأقدامه عليها في الواقع، بدراية او من دون دراية.والزراية بحقوق الانسان عن دراية أهون من الزراية بها من دون دراية. ذلك ان الأولى تعرف ما هي حقوق الانسان، وبسبب من هذه المعرفة تعلن احترامها لها، ولكنها بدافع أو آخر من دوافع الشر تنتهكها. وهذا ما تفعله الحكومات التسلطية دائما. ان مصلحتها الشيطانية في الحفاظ على حكمها دون اعتبار لما عداها، يقودها للبطش بحقوق الانسان. وهذا النوع من البطش يمثل"العدو الصغير" لحقوق الانسان، أو لكرامة الانسان. ذلك ان الأمر هين اذا كان متعلقا بالسلطة، دون المجتمع، فما أسهل أن تسقط السلطة اليوم، وتعود حقوق الانسان غدا الى المجتمع.أما الزراية بحقوق الانسان من دون دراية او عن جهل فهي الكارثة، خصوصا اذا كانت على درجة من الشيوع بحيث يمكن القول انها طريقة حياة هذا المجتمع أو ذاك. فهذه الحال تعني ان معتقدات المجتمع وسننه وعاداته مضادة اصلا لحقوق الانسان: الطفل يضرب في العائلة وفي المدرسة. المعاق يحتقر في البيت وفي الشارع. والانسانية تتميز عن الهمجية بالضبط من خلال طريقة المعاملة مع الطفل والمريض. ان المجتمع الذي يهدر كرامة الطفل وكرامة المريض هو "العدو الكبير" لحقوق الانسان. العدو الكبير لأن المجتمع باق والسلطة زائلة، لأن المجتمع هو الجماعة الكبيرة والسلطة جماعة صغيرة، ولأن المجتمع زراعة والسلطة حصاد. إن التعذيب في المعتقلات،على كل ما فيه من إجرام وخسة وجبن، ليس أكثر استفزازا من ضرب أب لطفله، أو مدرس لطالب، أو من السخرية والاستهانة بمعاق، أو من اهمال مريض. فالمجتمع الذي يعذب ويهين الطفل والمريض هو "العدو الكبير" الذي سوف لا ينتج غير "العدو الصغير" الذي يهين ويعذب الشعب. لكأن العدو الصغير يقول للعدو الكبير: هذه بضاعتك يا أبتي ردت اليك.ان معاملة الطفل والمريض ترسم الحدود الفاصلة بين مجتمع انساني وآخر همجي.
أحاديث شفوية: الطفل والمريض هما المقياس
نشر في: 16 مايو, 2012: 08:22 م