سلوى جراحفي خمسينيات القرن الماضي، كنت في مرحلة الدراسة الابتدائية، وكنا نعيش في مدينة كركوك. وكانت مدرستي "نموذجية"، أو هكذا يؤكد اسمها، "مدرسة كركوك الابتدائية النموذجية للبنات"، أي انها تقدم أفضل ما يمكن تقديمه للطالب. الصفوف منظمة، والمدرسات على قدر من المعرفة والأناقة.
كما كانت المدرسة تعنى بتشجيع الطلاب على تعلم الفن والموسيقى والتمثيل وكتابة الشعر والنثر، من خلال جمعيات تمارس نشاطها مرة في الأسبوع بعد أوقات الدوام الرسمية. أذكر أنها كانت مكاناً رحباً منظماً، كنا نجلس على رحلات خشبية نظيفة ويقدم لنا في الصباح وجبة مجانية، "صمونة ولبلبي ساخناً وكوباً من الحليب، نتناولها في داخل الصف بإشراف إحدى المعلمات والفرّاشة الدربة. لكن أهم غرف المدرسة، بلا منازع، كانت غرفة "الست" المديرة. غرفة قريبة من المدخل الرئيسي، لها ما لها من هيبة وتبجيل، تحرسها الفراشة دائماً، خاصة في غياب المديرة ولا تسمح لأحد بدخولها. غرفة متميزة بأثاثها الذي تخلو منه العديد من بيوت الطالبات. ستارة، وسجادة و "صوبة علاء الدين" تتوهج في أيام البرد، وأريكة مع كرسيين، أي "طخم قنفات"، وطاولة وسطية صغيرة. ومع ذلك، كانت كل تلك الفخامة، وما يحوطها من تبجيل وحراسة، تنتقل إلى ساحة المدرسة حين يأتي مفتش وزارة المعارف، لزيارة المدرسة، خاصة الأريكة وكرسييها، ليجلس عليها هو والمديرة ومن معه، يشاهد نشاطات المدرسة الرياضية أو "الفعاليات" المدرسية الأخرى، في حين تجلس المعلمات وبقية الحضور على كراس صغيرة من الخشب أو المعدن. وهذه الظاهرة لا تختص بها مدينة كركوك وحدها، بل تشمل كل المدارس العراقية. فقد أمضيت سنين الدراسة الابتدائية أتنقل بين مدارس البصرة والزبير وكركوك بحكم عمل والدي، في شركة نفط العراق IPC الذي كان يفرض علينا الكثير من الترحال بين محطات ضخ النفط. لم يختلف الأمر كثيراً في المرحلة الثانوية أو الإعدادية رغم المتغيرات السياسية الكثيرة التي حدثت في العراق منذ نهاية الخمسينيات حتى منتصف الستينيات. ظلت "القنفات" تخرج من غرف المديرات المختلفات، مع تعاقب السنين وتغير المفتشين، لتفترش الساحة في المدرسة كلما جاء مسؤول لحضور إحدى النشاطات المدرسية. خلال الدراسة الجامعية افتقدت هذه الظاهرة الغريبة لأني درست في جامعة "الحكمة" للآباء اليسوعيين في بغداد، ولم يكن المسؤولون يزورونها لأنها كانت جامعة خاصة. وفي حفلات الجامعة كانت ترص الكراسي المتشابهة لجلوس الأهالي والأساتذة ورئيس الجامعة والطلاب. ومن يصل قبل غيره يجلس في المقعد الذي يختار. لكن "القنفة" العتيدة" ظلت من نجوم الحفلات الرسمية. ومع الوقت كبر حجمها، وطليت بالذهب وزُينت بنقوش عجيبة. والآن، بعد كل ما تغير في العراق، رأيتها، على شاشات التلفزيون، نجمة بلا منازع في مهرجان المربد التاسع الذي أقيم في البصرة. كانت تحتل الجزء الأمامي من القاعة، ويجلس عليها المسؤولون، ومن يحب أن يظهر في صحبتهم. بل شاهدت في حفل الافتتاح صفاً طويلاً من الشعراء بعضهم أسماء معروفة، وقوفاً بلا مكان للجلوس لأن "القنفات"، وهو طبعاً جمع "قنفة" ملحق بجمع المؤنث السالم، تشغل حيزاً كبيراً من القاعة الصغيرة. فما هو سر سحر "القنفة" ولم هذا الإصرار على استحضارها؟ ألا يستطيع المسؤول أو الوزير الجلوس مثل بقية خلق الله على كرسي؟ تقول المراجع في تعريف "القنفة" إنها، قطعة أثاث للجلوس المريح أو الاسترخاء. أول من استخدمها هم الفراعنة قبل ألفي سنة، ثم أخذها عنهم الرومان، لكنها كانت حكراً على الملوك والأباطرة. ومع تطور بناء البيوت وزيادة إحكامها من عوامل الطقس، ظهرت فكرة الكرسي ذي المساند وكان يحشى بالقش وشعر الحصان والريش. لكنه كان غالي الثمن، لا يقدر على شرائه إلا الأغنياء. وللأريكة أو "القنفة"، مسميات عديدة، منها الصوفا، المشتقة من اللغة العربية من كلمة "صُفة"، أي مصطبة تتراصف عليها المخدات والوسائد المريحة. كما تعرف الأريكة في بلاد أميركا الشمالية بكاوتش couch وهي كلمة مشتقة من الكلمة الفرنسية couche التي تعني سريراً، لكنها أصبحت مع الأيام تعني الأريكة المريحة. ولعل التعبير العراقي كوشة بمعنى وسادة، مأخوذ منها أيضاً، أو حتى "كوشة العروس" التي تجلس فيها في حفلة العرس مع العريس. وهناك تسمية أخرى هي الشازلونج، وهي أريكة بمسند من جانب واحد كانت الحسان يستلقين عليها ليرسمهن مشاهير رسامي عصرهن. لكن الأريكة لم تدخل حياة الناس العاديين حتى القرن الثامن عشر بعد أن تطورت صناعة النسيج في أوربا وأصبح العديد من منتجي الأثاث الخشبي يعلنون عن توفر هذه الأرائك لمن يطلبها. ولعل
شاهد على عقلية لم تتغير
نشر في: 18 مايو, 2012: 06:58 م