احمد المهنا أكثر المعلقون من الحديث عن المعاني الايجابية للمناظرة "الأولى من نوعها" في العالم العربي بين عمرو موسى ومنافسه على رئاسة مصر عبد المنعم أبو الفتوح. ومعهم حق. الذين لاحظوا جوانبها السلبية معهم حق أيضا. وبعيدا عن الموقفين تساءلت: ما هو أهم ما بقي منها عالقا في ذهني بعد مرور اسبوع عليها؟ هذا سؤال غالبا ما أطرحه على نفسي حول اي حدث يهمني بعد فترة من وقوعه، اعتقادا مني بأن أهم ما فيه هو ما أتذكره منه بعد نسيان كل شيء آخر فيه.
فقير للغاية ما أتذكره منها. كلمة واحدة توجزه هي الإتهام. ومعنى واحد يختصره هو التسقيط. موسى اتهم منافسه بمباركة العنف. وأبو الفتوح ركز على صلة موسى بنظام مبارك، أي بأنه من "الفلول". والريادة في هذه المفردة لنا نحن العراقيين. لكن مع ما لمصر من تأثير فسيكون لها شأن في أدبيات السياسة العربية.والاتهامان في محلهما، ولا يمكن تفويتهما في مناسبة صراع على الكرسي مثل هذه. ولكنني أتساءل عما اذا كان ممكنا طرحهما بصيغ اخرى، استفهامية، استعلامية، تبعد عنهما معنى تسقيط الآخر، وترفعه الى معنى فهم الآخر. وبذلك تختفي من المنافسة نبرة التحامل، وتسمو اللغة عن منزلق الإسفاف.ان نوعية لغة التخاطب بين الساسة أمر خطير للغاية. فارتفاعها أو انخفاضها يعبران عن مستوى الفكر السياسي السائد. وهذا الأخير بدوره تعبير أوسع عن مستويات لغة التخاطب بين افراد الشعب. والساسة عادة يمثلون فئة رفيعة من الشعب. وبالتالي فإن لغتهم تأخذ المقام نفسه. فاذا هبطت فكيف يكون مستواها عند الفئات الأدنى؟إن للاستبداد لغته الخاصة. فهو يصنع بيئة لغوية ملوثة، فائرة، حادة، تسود فيها الاتهامات والشتائم. ومخلفاته، ومنها لغته، لا تنتهي بمجرد سقوط رئيس مستبد. ومصر رائدة في لغة الاستبداد، فقد تكلم لسانها بهذه اللغة منذ ثورة 1952.ويخيل الي ان هذه واحدة من الأسباب التي حملت رجلا مثل محمد البرادعي على الانسحاب من سباق الترشح للرئاسة. فهو يتكلم لغة أخرى تماما، لغة انسان حر. وقد اشتغلت عليه "اللغة المضادة" شغلا كافرا، قبل وبعد سقوط مبارك. ولاحظت بنفسي مدى تأثيرها في الشارع المصري. لا يستطيع رجل عاش مغتربا 40 عاما أن يحكم مصر. هذا ما قاله لي يوما شاب ثائر في ميدان التحرير. ولعل هذا أهون ما قيل ضده. فقصة تسليمه العراق للأميركان، عندما كان مديرا عاما للوكالة الدولية للطاقة الذرية، مسلمة لدى رجل الشارع. وبناء عليها اتهم بأنه جاسوس اميركي واسرائيلي.هذه اللغة ليست بالطبع هي السبب الحصري لانسحابه من الترشح للرئاسة. ولكنها حلقة في "سلسلة استبدادية" أبعدت رموز وروح ثورة 25 يناير عن مشهد السباق الرئاسي الذي يتحكم العسكر بآفاقه. وهو تحكم لا يستطيع صاحبنا التوافق معه. ولا ينبغي له. وكنت طوال مناظرة موسى وابو الفتوح أفتقد لغة البرادعي المتنورة والبناءة. ويزيدني غيابها يقينا بأن ثورة مصر مازالت في بدايتها، وهي لم تثمر شيئا حتى الآن كما قال سوى "القضاء تماما على ثقافة الخوف".ورغم ذلك كانت المناظرة تاريخية. فليس بالأمر القليل أبدا استبدال العضلات بالكلمات للوصول الى السطة.
أحاديث شفوية:"الاستبداد" في مناظرة مصر
نشر في: 18 مايو, 2012: 08:45 م