سرمد الطائيخلال بضعة ايام وجدت نفسي خاضعا لاستجواب لطيف وذكي اجراه مخرج افلام وثائقية من البرتغال، وصحفي امريكي منهمك بالشأن العراقي. الاول يحلم بصناعة فيلم عن الصحافة العراقية في عهد الانفتاح السياسي باعتبارها ظاهرة مثيرة نشأت وسط واقعية الدم وأحلام الحرية.
والثاني كتب قصة مطولة عن هذه الصحافة قبل 8 اعوام، وهو يعود محاولا قياس درجة اختلاف الامور حاليا.وينتابني شعور ايجابي حين استمع الى اسئلة تأتي من حضارة مختلفة. فالآخر الحضاري مرآة استثنائية لذواتنا. والامر يشبه قصة هندية تحظى بإخراج بريطاني رائع مثل فيلم "المليونير المشرد"، في لحظة يجد الشرق انه بحاجة الى "فن" غربي متطور لسرد حكايته. كما يشبه الامر احيانا الدراسات العظيمة التي كان علماء غربيون ينجزونها حول موضوع شرقي، في حقل "الاستشراق". وما اجمل ما كتب ماسينيون الغربي عن الحلاج الشرقي ؟..الخ. وبالتأكيد فإن الاشخاص الغربيين الذين يكتبون عن اوضاعنا ليسوا ماسينيون، كما انني لست الحلاج، لكن الاسئلة تأتي "مسترخية" بهدوء الغرب واسترخائه، لتنظر بطريقة مختلفة الى كل توترنا وربما شعورنا بالضياع. وهذا المزج بين هدوء الغرب وتوتر الشرق كثيرا ما ينتج قصصا طريفة ويجعلني اعثر على اجابات جديدة لم تكن تخطر على ذهني في العادة.السؤال الكبير الذي يطرحونه صعب حقا: هل اصبحتم افضل اليوم ؟ لماذا نرى العراقيين يصرون على العمل والحديث بتفاؤل نسبي، رغم كل مخاوفهم واسبابهم الكبيرة للقلق؟وبين اسباب التفاؤل التي اقدمها للصحافة المستفهمة، امر يتعلق بتضاعف عوائد البترول ومجيء عمالقة النفط للعمل هنا. وهو امر يعني ان العراق ينفتح على العالم المتقدم رغم انف من يريد عزلنا والتحكم بمفرده بمصائرنا. والامر الآخر يتصل بالتغيير الذي يعم المنطقة ويعمم نموذج تعددية سياسية تحاول تعلُّم ان تتعايش مع بعضها وتتدرب على الاداء الديمقراطي. ونحن نراهن على ان شهوة الحاكم للاستبداد تصطدم بهاتين الحقيقتين وبحقيقة ان العراق لم يعد جزيرة معزولة يمكن للسلطان ان يفعل بين اسوارها الحديدية ما يشاء.. انها "شهوة في توقيت سيء" كما نردد دوما نحن انصاف المتفائلين.وبين دواعي التشاؤم ذلك الاداء الفاسد لساستنا، واخبار من قبيل ان 325 نائبا في البرلمان يريدون الحصول على قطع اراض تصل قيمة بعضها الى مليون دولار، وتسريبات من قبيل ان "اسبابا تافهة" تؤخر المشاريع وتجعل العوائل الفقيرة، تنتظر على قارعة الفقر حلما يموت كل يوم.يسألك الغرب: كيف توازن بين دواعي تفاؤلك واسباب تشاؤمك، ومن الذي سيرجح الكفة ويشجعك على العمل بجد، او الانزواء والصمت؟ فأحدثه عن دبابتين او مدرعتين لا تزالان تتحكمان بحياتي وحياة الآخرين، منذ 30 عاما. الدبابة او المدرعة الثانية لا تزال عند زاوية الشارع قرب السيطرة في محل عملنا او محل سكنانا. اما الدبابة الاولى فكانت تمر امام باب دارنا عام 1980 لتخوض الحرب مع ايران. وبين هاتين الدبابتين مسافة طويلة هي كل العمر المحاط بالمخاوف والقلق. اقول للغرب (بل اقول لنفسي صباح كل يوم) ان من المفترض اننا تعلمنا طيلة هذه المسافة، ان نعيش بين الدبابتين، وان نعلم تحت وابل ملايين القذائف سواء كانت من بارود، او قذائف الفشل والاخفاق والادارة السيئة وشهوات الاستبداد. وكان علينا ان نتخذ قرارا سريعا: اما ان نترك البلاد هاربين، او نتعلم كيف نعيش ونعمل بين دبابة 1980 ودبابة 2012.. وبين ما تعلمناه ان آلاف العراقيين ماتوا بصمت قرب الدبابة الاولى. وان ملايين العراقيين لا يريدون ان يموتوا بصمت قرب دبابة 2012. ولذلك فإننا نبحث عن بقايا كرامتنا ونثرثر كثيرا ونتهور احيانا.. تحت شعار اننا لن نلقى مصارعنا بصمت مرة اخرى، وتحت تأثير اي شهوة استبداد تتلاعب بعواطف وقرارات سلطاننا اليوم.الكتاب القادمون من الغرب يحاولون العثور على اجابات لعرض حكايتنا مع "الخوف والرجاء". ولا شك ان سلطاننا نوري المالكي او بقية السلاطين، لا يمثلون هدفا مثيرا كالحلاج بالنسبة الى العقل الغربي او احفاد ماسينيون، لكن الاجيال العراقية التي ظلت تولد قرب دبابة طيلة 30 عاما، والاطفال الذين لا يزالون يولدون عبر السيطرات في "جمهورية نقاط التفتيش"، يمثلون حكاية تستحق ان تعرض عالميا. لا يزال لدى "الاستشراق" وماكنته الجديدة "الصحافة" الكثير مما يستحق ان يكتب عنه، ونأمل ان يعثر الغربيون على "قصص تفاؤل" كي يعرضوها، بدل كل مآسي الشرق التي كتبوا عنها طويلا!
عن الغرب "والحلاج" والمالكي
نشر في: 19 مايو, 2012: 08:42 م