سرمد الطائي 3 مصادفات خلال يوم واحد تجعلك تشعر بأن الكثير من الأشياء المهمة يمكن أن تكون أو يمكن أن تبدو، رخيصة جدا ومبتذلة وغير مهمة. وفي لوحة فنطازية متخلية يمكن أن نعد هذه الأشياء مفتاحا يحل لغز الخراب الذي نتعامل مع إصلاحه ببطء شديد، بل نخطئ في إصلاحه موسعين رقعة التخريب أحيانا، والأخطر إننا اعتدنا على العيش في يوميات الخراب وحماسنا يتراجع لمواجهته بالطريقة المطلوبة في مناسبات عدة.
المصادفة الأولى هي لقاء بموهوب عراقي يمتلك قدرة خارقة على معالجة المعادلات الرياضية الصعبة خلال ثوان معدودة، حتى أننا كنا نحاول اللحاق به عبر حاسبة الكومبيوتر وهو يسبقنا ويسبقنا. مواهب هذا الشخص تتجاوز المعادلات الرياضية لتنسحب على ذاكرة صورية هائلة فهو يحفظ آلاف أرقام الموبايلات العائدة لأشخاص يعرفهم أو أشخاص التقاهم صدفة، ولا يسجل أي رقم هاتف في موبايله فقد حفظ كل شيء بلا أي خطأ. تتعب من اختباره وتبدأ بسؤاله عن المجالات التي جرى استثمار موهبته فيها، فتأتيك الصدمة: لم يستفد احد من هذه الموهبة لا أكاديميا ولا علميا، لكن جهازا امنيا استخدمه مرات ومرات للتعرف على أرقام السيارات المطلوبة، ويتركه الضباط واقفا لساعات في السيطرات لهذا الغرض! وهذا الاستخدام لموهبته جعله محبطا وبدد كل أحلامه وبات حالة يصعب انتشالها من حالة الشلل والجمود كما يبدو.وعبر أكثر من نظام حكم البلد لم تجر الاستفادة من هذا الموهوب إلا في هذا المجال المحدود وغير المجدي بالمقارنة مع سعة ملكته وخرقها لقوانين الطبيعة المعتادة. إلى أي حد نعتبر العبقرية رخيصة في بلادنا؟الحادثة الثانية التي تجعلك تشعر بأن الأشياء رخيصة هي اعترافات في محكمة نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي. وسواء كانت الاعترافات حقيقية أم انه كما يدعي المحامون، مفبركة رتبها المحققون، فإنها مصيبة. فالشخص الذي قدمته المحكمة بوصفه قائد كتائب ثورة العشرين يقول انه يقوم بعمليات تفخيخ وهجمات قد تقوده إلى حبل المشنقة، لكنه لا يقبض لقاء العملية الواحدة إلا على ما يعادل 8 او 10 آلاف دولار. وكيف يمكن ان أتخيل ان الخراب والدمار والرعب والموت العدمي الذي نواجهه، يأتي بهذا "الرخص"؟ وحتى لو كان الاعتراف مفبركا فإلى أي درجة كان "المفبركون" مسترخصين للدم بأن حددوا هذا الثمن البخس لمنظمة عرفت على نطاق واسع بهجماتها الإرهابية، لسنوات عديدة؟ وحين تناقش الأمر مع خبير بالجماعات المسلحة يقول لك إن كثيرا من العمليات لم تكلف أكثر من هذه المبالغ وخاصة في سنوات اشتداد العنف، والكثير من المسلحين من كل الطوائف، قاموا بعمليات رهيبة لقاء مبالغ تافهة جدا. ما ارخص دماءنا إذن؟الموضوع الثالث يتعلق بقذارة شوارعنا المهملة والمتربة والمليئة بالأنقاض والخرائب. وقد سجل كاتب عربي في جريدة السفير اللبنانية انطباعاته حول هذا حين عاد من بغداد والبصرة مشاركا في مهرجان المربد الأخير. يقول إن شوارع بغداد قذرة مع ان دجلة يستدير داخلها 4 مرات قبل أن يواصل رحلته في وادي الرافدين، منبها إلى أن مياه النهر العظيمة في وسعها غسل شوارع العاصمة 10 مرات يوميا. وقل مثل هذا عن البصرة التي يخترقها واحد من الأنهار القليلة الصالحة للملاحة في كل الدنيا، وهي مدينة يكفي نفطها لبناء 10 بلدان بينما تظل تجمعا كئيبا لبنايات قديمة يقطنها البؤساء. الكاتب العربي القادم من بلدان ينقصها الماء والنفط لكنها أنظف منا وأكثر ازدهارا بالطبع، يسجل علامة استغراب بلا نهاية ويتركنا في ردة فعل صارت بلا طعم.وهكذا فإن تعاملنا بتساهل مع ثروتي الماء والنفط، هو المنطق نفسه الذي يجعل عبقريا في الرياضيات مجرد رقم تستغله أجهزة الأمن للتعرف على لوحات العجلات في نقاط التفتيش. وهو المنطق نفسه الذي يجعل مسلحين يعترفون باعتداءات كبيرة ذاكرين مبالغ تافهة قامت بتمويل عملية سوداء.العقول والأرواح والمال والنفط هي عماد الازدهار. وحين تكون هذه أكثر العناصر التي نتعامل معها ومع مخرجاتها بهذا التساهل، فإننا مجرد مجموعات بشرية اعتادت أن تقيم في الخراب وتتأقلم معه سواء بالموت أو بالرياضيات.
عالم آخر:الرياضيات والموت
نشر في: 22 مايو, 2012: 09:15 م