شاكر لعيبي هل تفضّل الثقافة العربية، واستطراداً العراقية، التصنيفات النقدية النهائية والمشاجب السهلة والأحكام الجاهزة ، ولعلها في النهاية تقف بذلك موقفا لا-تاريخيا ولا تحليلياً في آن واحد، خاصة إزاء كائنات مفرطة الحسّاسية مثل الأدباء، وأمر معقد مثل الأدب؟. من أطرف التعليقات الجاهزة التي يمكن قراءتها بشأن كلمة عن شاعر "سبعيني" نُشرت في "المدى" ثم أعيد نشرها، هو الوصف الذي يقدّمه المعلق بأن المعنيين هم من "شعراء المنافي السياحية "
بل من "أدباء اللجنة المركزية". هذا التوصيف هو استعادة متأخرة لا غير لما سبق أن وُصف الشعر العراقي به في حقبة تاريخية ماضية: إنه شعر كانت تتقاسمه أيديولوجيتان، وباختصار شعر لا قيمة له لأنه يصدر عن أيديولوجيا. استعادة ممجوجة في الحقيقة.هذه النزعة غير الجدلية تتسمُ بتشبثها بخطاب عابر للأزمنة والأمكنة. وتتميز عموماً بالثبات الذي ليس من طبائع الأشياء. على الصعيد الثقافي العربي ما فتئنا منذ خمسين عاما نسمع (فكرة ثابتة) لا تتغير عن الشاعر أدونيس بأنه "علويّ" وبأنه "قومي سوري". اليوم وصل الأمر إلى مستوى فجاجة وخطورة الإعلان بأنه مطلوب للعدالة بتهمة «التشبيح الطائفي والإعلامي والتهجّم على الدين الإسلامي». منذ أن فتحنا أعيننا على عالم الثقافة ونحن نسمع هذه النغمة عن شاعر مهم ومفكّر لا يتفق الجميع معه دائماً. شاعر آخر هو محمود درويش أدرك، بحسه الجمالي والتاريخي، بأن (الفكرة الثابتة) عنه بأنه "شاعر المقاومة" فحسب وحصرياً، قد لا تكون لصالح شعره، فراح يخفف من وقعها أو يبعد ظلالها السالبة عنه. هنا محض مثالين لفكرتين ثابتتين يمكن أن نجد الكثير الجاهز منهما في الثقافة العربية.منذ ثلاثين عاماً، من جهة أخرى، وقع التنغيم كثيراً وبشكل ملحّ على فكرة الأيديولوجيّ، الثابتة أيضاً، في الشعر العراقي إبان فترة السبعينات، ووُصفت الظاهرة دون تدقيق بأنها تتعلق خاصة بشعر يساريّ، بشعراء شيوعيين، ضيقي الأفق، وللإيحاء في النهاية بأنهم واقعيون اشتراكيون، مناضلون رثون، وما شئنا من النعوت المحسوبة بدقة من طرف مطلقيها. ترمي التهمة الطائفية لأدونيس إلى الإقلال من شأن منجزه الشعري والدفع باتجاه قراءة أعماله النقدية بروح طائفي مقيت. المضمر دائما في الخطاب أن هذه الأيديولوجيا الثابتة المقتَرَحة هي رديف لغياب الشعرية والموهبة والأصالة. لو قيل صراحاً ذلك المضمر لصمت المعنيون "بغيظهم"، ولما احتاج أحد للعودة إلى الموضوع. يتعلق الأمر بما وصفناه ذات مرة في هذا العمود بـ "لصقة جونسون" الثقافية التي، حسب علمنا، تلصق في كل موضع. الطريف في الأمر الآن والمضحك هو تذكيرنا "باللجنة المركزية" الذي ذكَّرنا فجأة بالمثل الشعبي: (عرب وين طمبورة وين). هناك مَنْ يُصِرّ على ما يشابه هذه المواقف، ويبدو وكأنه يقف خارج التاريخ. وهنا يقع الدرس الأساسي: من المرجّح أن يتزحزح جميع المثقفين، سواءً من استشهدنا بهم هنا أو من سواهم، عن مواقفهم وطوائفهم وأيديولوجياتهم، بحكم الخبرة والتجربة والثقافة، ومن الممكن أن يقع انشقاق كامل في وعيهم، كفيل بنقلهم إلى ضفة مغايرة تماماً. لا المذهب العلوي، ولا الحزب السوري الاجتماعي، ولا اللجنة والقيادة المركزية، ولا الفكر الشيوعي والبعثيّ والديني، ولا المقاومة الفلسطينية، ولا أي حالة لحظوية بقادرة على خلق شاعر أو نفيه. خلاف ذلك فإن التكرار المنهجي لمثل التصنيفات المذكورة هنا – يستوي بذلك المدحيّ والقدحيّ الجاهزان مسبقاً- قد يشير إلى وعي ثابت، لا يحسب حساب التحولات التي تطرأ على العالم والجدل في عقول سكانه. العالم يتغير في كل لحظة، ما الذي يصيب بعض المبدعين لكي يبقى منجزهم الإبداعي في ثبات أزليّ، أيديولوجي أو طائفي أو سياسي أو غير ذلك؟. هذا التصنيف لا يقرأ في الغالب المنجز الكتابي للمنقودين ويزعم أنه موسوم بميسم واحد دوماً وأبداً. غير ممكن، لا أحد نظرياً يبقى في مكانه، سيُقال لنا: لماذا إذنْ لا نستوعب البداهة؟!
تلويحة المدى :أفكار مُعلـَّبة(1)
نشر في: 26 مايو, 2012: 06:25 م