علي عبد الأمير عجام يبدو رحيل الفنان متعدد المواهب خزعـل مهدي أقرب إلى أن يكون الطعنة الأخيرة في جسد الذاكرة البغدادية الطرية المتشكلة تحديدا في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى نهاية سبعينات القرن الماضي، حين بدت بغداد كثقافة مدينية وقد اندحرت أمام ديكتاتورية متشكلة من عسف نظام أمني
قائم على تخلف اجتماعي عماده قيم فظة متحدرة من البداوة والريف.الراحل يمثل لا النسيج الاجتماعي لمدينة بغداد المعاصرة في محاولة تشكلها عبر نخب مثقفة ومتعلمة وحسب، بل تطلع المدينة إلى تحضر متمهل، حين كانت تنفتح على العصر دون أن تتنكر لأصولها التاريخية والثقافية، فتجده ينهل من الفنون المعاصرة في اللحن الموسيقي ما يجعل الاستعارة أقرب إلى روح المدينة، مثلما كان يفعل تماما معماريون عراقيون في استعارة الحداثة الغربية ضمن أفق محلي يتصل بروحية المكان البغدادي ونسيجه الاجتماعي.خذ في هذا الشأن لحنه البارع "صباح الخير" بصوت هناء، نسيج نغمي مطواع، نابض بالرشاقة، في تعبيرية عالية عن إيحاءات الصباح بما فيه من انفتاح على الأمل والتجدد، وبكلام هو من لهجة بغدادية دارجة، لم تحطم ( يوم أبدع أغنيته في ستينات القرن الماضي) دلعها وغنجها فظاظة الهجرات الريفية والبدوية، بعد.النسق اللحني هذا المأخوذ بروح بغداد كمدينة وفكرة ثقافية أساسها الانفتاح على العصر دونما انسلاخ عن الهوية الوطنية، تجده حاضرا في عشرات من ألحان الرائد الراحل، بل أن كونه "فنانا فطريا" يؤكد أن اللحظة التي رسخته صاحب أعمال تبدأ بالموسيقى ولا تنتهي بالسينما التسجيلية، مرورا بالتلفزيون والمسرح، هي لحظة ثقافية رصينة في تاريخ بغداد المعاصر، قائمة على تقدير عال للموهبة بوصفها جوهر العمل الفني، حد أن الفرق الموسيقية التي كانت تسجل ألحانه، والأصوات المتمرسة التي كانت تغني تلك الألحان لم تعترض على كون منتجها فنانا فطريا، بل كان الفنانون والمؤسسة والذائقة جميعا يتعاطون مع نتاجه باحترام وتقدير عاليين.تلك لحظة استثنائية، توافرت على أرواح استثنائية أيضا، فابن إحدى أكثر المحلات البغدادية (الفضل) صخبا وتلاقحا اجتماعيا، اختصر في قدرته على الابتكار الفني في أكثر من نوع وشكل ومضمار، لحظة كانت تتوق فيها أجيال عراقية للخروج من عتمتها الثقافية والاجتماعية إلى فضاءات العصر، وهو ما لم يكن ليتحقق لولا ثقافة مدينية كانت تتعزز في بغداد وتترسخ، فإلى جانب البناء المعماري في المدينة، كانت تقوم شواهد الإبداع الفكري والفني الراقي في الموسيقى والتشكيل والمسرح وفي القادم الجديد حينها: التلفزيون.ومع أن الراحل خزعل مهدي وضع في كل من السينما والمسرح والتلفزة علامة تؤكد تنوعه الإبداعي، إلا أن العودة إلى إرثه اللحني، تؤكد أننا حيال نغمة نادرة لا في النتاج الغنائي العراقي وحسب بل في عموم الثقافة العراقية المعاصرة: إنها تتصل بغناء المدينة أو ما يعرف عنه في الاصطلاح الفني "أغنية المدينة" التي انقضّت عليها أغنيات الريف والبداوة بالتزامن مع وجود سلطات حاكمة من أصول ريفية وبدوية، أشاعت قيمها الثقافية والسياسية.من نتاجه العبقري في صوغ "أغنية بغدادية"، ثمة "اترك هوى الحلوين" التي قدمها للصوت الجديد القادم حينها من البصرة: فؤاد سالم. فالراحل خزعل مهدي، لم يداعب مديات الطراوة والرقة العاطفية في صوت المطرب الشاب وحسب، بل في تشذيب الأداء الغنائي عنده من نبرات ريفية، وإعلاء حس المدينة مفردة وتعبيرا نغميا. النص مطواع ويأخذ موضعة "العتاب" من تقليديته السائدة إلى مصاف التعبير الوجداني الجميل. ومع أن الكلام يبدو أحيانا غير شعري وينطوي على أفعال أمر كثيرة تبدو ثقيلة "اترك" ولاحقا "انس" إلا أن ما جعله يحلق في وجدان ابن أو ابنة مدينة مخذول أو مخذولة عاطفيا، هو ذلك اللحن الآسر، لحن من نسيج حياة المدينة المركب ولكنه المنفتح أيضا. مركب في تشعبه الموسيقي ولكنه المنفتح في الإبقاء على الأمل رغم الخسارة العاطفية، وذلك عبر لحن يداعب الشجن ولكن دون السقوط في بكائية الحزن التي تستغرق فيها سذاجات الغناء العراقي . تلك الميزة في إبداع مهدي اللحني، أي الحزن الشجي (روح المدينة المعاصرة) لا البكاء الثقيل (الروحية الريفية) ، تلتمع أيضا في أغنية "جوز منهم" التي غنتها عفيفة اسكندر، وهي أيضا تقع في الموضوعة الأثيرة ذاتها: العتاب مع الذات في خيبتها عاطفيا. وحين تستعيد روائعه اللحنية الأخرى لتصل إلى لحظة تسمع فيها أو تحاول الاستماع إلى ما يسود اليوم في الفضاء النغمي لمدينة بغداد، فإنك تصل إلى فكرة من نوع الحزن الثقيل المؤذي حقا، فالذاكرة البغدادية تترنح اليوم ما بين مطرقة غياب مبدعيها ومنهم الراحل الموهوب خزعل مهدي، وسندان الراهن الذي تتعرض فيه بغداد إلى بذاءات فكرية وثقافية وسياسية تتحول فيه إلى كائن بلا ملامح.
الذاكرة البغدادية بين مطرقة غياب روّادها وسندان الراهن البذيء
نشر في: 27 مايو, 2012: 09:09 م