rnهناك معادلة تصلح كمعيار دقيق لإثبات الدولة المدنية او عدمها، تقول المعادلة كلما توافرت حرية الإعلام بأنواعه كافة، وكُفِلَت حرية الإعلاميين، اقتربت الدولة من حياة التمدّن أكثر، هذه المعادلة خبرها الإعلاميون العراقيون وتعرفوا إليها وتعاملوا معها عبر عقود عجاف، مرَّت وانتهت ولا يجب لها أن تعود مطلقا، لذا هم ليسوا بحاجة إلى دهاء مضاف حتى يكتشفوا الجهات التي تحاول خلط
الأوراق، لكي تضيّق الخناق مرة أخرى، حول عنق الإعلام وأعناق الإعلاميين في العراق. ولعله من المعيب حقا، أن نتحدث عن محاربة الإعلام ومضايقة الإعلاميين، بعد ما يقرب من عشر سنوات مرّت على دخولنا الحريات الإعلامية من أوسع أبوابها، ولكن عندما يلوح شبح التكميم مرة أخرى، وتنشط مخالب السلطة كي تنقضّ على عنق الإعلام، عندها ليس من السلامة قط أن نلوذ بالصمت، أو نمتطي المحاباة، أو نرائي ونغض الطرف، عن هذا الانتهاك أو ذاك، لكي تمر عملية خلط الأوراق من بين أرجلنا، وتصل إلى أهدافها بلا ضجة أو اعتراض. ما يحدث الآن في العلاقة بين السلطة والإعلام لا يبشر بخير، والصمت على ما يحدث لا يؤشر حالة صحيحة، أما التملق ومراعاة المصالح فهي الكارثة التي طالما ألمّت بنا ولوّثَت حياتنا، إذا أردنا أن نسمح بخلط الأوراق، تحت حجج واهية تتمثل بـ (مراعاة المكاسب المادية/ قطع الأراضي السكنية/ المنحة السنوية) وما شابه، لأن الحاجة والفقر مع الإحساس بقوة الكلمة وحرية الرأي والصحافة والإعلام عموما، خير من كنوز الدنيا مع ذل الصمت على أخطاء السلطة سواء كانت عن قصد أو دونه. تطفو على السطح بين حين وآخر، أخبار وإجراءات غير سارة، تقوم بها السلطة لسحب البساط (بساط الحرية) من تحت أقدام الإعلام والإعلاميين، وهي تحاول بذلك وضع جدار عازل بينها وبين الراصد الإعلامي، لأسباب هي تعرفها قبل غيرها، وكأنها لا تريد أن تهضم التجارب السابقة بين الإعلام والسلطة، وكأنها أيضا لا تؤمن بتدعيم مكونات الدولة المدنية المعاصرة، ولكن هذه العملية تشبه السير في الاتجاه المعاكس في كل شيء، فالعودة إلى معالم الأمس ما عادت ممكنة قط، وحصر الإعلام في بوتقة واحدة ومسار واحد بات مستحيلا، وهذا ما تدل عليه جميع المؤشرات القائمة على الأرض. حتى أطفالنا يعرفون الآن ماذا يحدث في أقاصي الأرض بثوانٍ معدودات، حتى شيوخنا وعجائزنا ونساؤنا يعرفون ذلك بسرعة لا تتجاوز من الدقائق أصابع الكف الواحدة، فكيف بأبنائنا وشبابنا؟!، إذ أنَّ المعلومات بمختلف أنواعها، لم تعد قادرة على الاختفاء خلف جدران السلطة ووسائلها وألاعيبها، لذلك من الغباء أن يستمر منهج التضييق على الإعلام، ومن البؤس أن يتصور القادة السياسيون، أن كبح جماح هذه الكلمة أو هذا الرأي أو تلك الصورة، كفيل بحماية المركز والنفوذ وامتيازات الكرسي. لهذا لم يعد من المجدي أن تلعب السلطة لعبتها القديمة الجديدة، فمنهج خلط الأوراق بات قديما ومكشوفا ولا يحتاج إلى كثير عناء، لكي يكتشف الجميع من يقف وراءه ومن يحرك خيوطه، كما أن التلفّع برداء القانون والإجراءات الإدارية التي تمنع هذا الصوت أو ذاك من الانطلاق، لم يعد أمرا سالكا، لأن القانون نفسه يقف مع انطلاق الصوت والرأي والكلمة، وأن قمعها وكبتها قادنا إلى الخراب الذي نعيش بقاياه اليوم. مطلوب وقفة ضمير جادة لكي تُفَك حالة الالتباس والتداخل التي تتعرض لها العملية الإعلامية برمتها، في علاقتها الشائكة مع السلطة بأنواعها، ولا تنحصر وقفة الضمير بالإعلاميين وقادتهم المخلصين فقط، بل بالمخلصين من القادة السياسيين الذين يعرفون حق المعرفة، كيف سيكون حال البلد فيما لو تفوق فيه صوت القمع على صوت الإعلام.
حـــــرية الإعــــــلام وخلط الأوراق
نشر في: 29 يونيو, 2012: 11:09 ص