علي حسين عبيد مأزوم هذا الوطن، مبعثر في حاضره، مشتت في ماضيه، لوحة ألم وقلق وخوف، تقدمها لنا مئذنة علي لفتة سعيد، لوحة تأخذ رموزها من التأريخ والحاضر معاً، تنتشل أفكارها وصورها وكلماتها وحواراتها من وقائع الحزن والقتل والضياع، التي يتعرض لها الوطن ومن فيه، ثلاثة شخوص في المئذنة، شاب وامرأة عبرا سن الثلاثين، هما صورة الحاضر وثنائيته الملتحمة بالخير والشر، وما تنطوي عليه هذه المعادلة من يأس وأمل وتشاؤم وتفاؤل وثنائيات أخرى متشعبة،
وثمة رجل كبير، مجرِّب، خبير، ميت، ربما هو صوت التاريخ، الذي ينطلق من أفواه الغائبين أو المغيبين، ليصحح الأخطاء ويجمّل الصور والأحداث، ويزرق إكسير الحياة الوردية في أوردة وشرايين وقلوب اليائسين، التائهين، المشتتين. تبدأ مئذنة علي لفتة سعيد بحوارية بين الشاب والمرأة الشابة، في خط درامي متصاعد، يبث للقارئ أو المشاهد، أفكارا متصادمة، مصدرها رهبة الحاضر وغرابته، تشي باحتدام هائل في الذات، ليس الفردية فحسب، بل ذات الجمع مرموزاً لها بذات الشاب، أو الرجل اليائس المبتلى بصور الموت الجاثم على صدره وتأريخه وحاضره، لذا هو يبحث بدأب عن الخلاص في المئذنة، وفي الكتابة والإبداع السردي، إنه يكتب القصص لكي يتقبّل الحياة، ولكي يهضم غرائب التشظي في الهوية، ويجد في المئذنة تأريخا يغوي الآخرين بالانقضاض عليه، هناك طامعون كثر، وهناك كنوز غالية تنطوي عليها المئذنة، في ترميز متواصل ومكثّف، يدفعه الكاتب إلينا على لسان الشاب وهواجسه، ومخاوفه، وقلقه النازف بتواصل يثير الدهشة والألم في آن، إنه يخشى الضياع، في ظل تداخل هائل في الصور والنوايا والأحداث والمآرب أيضا، والخوف كل الخوف من أن يضيع الملاذ الأخير (المئذنة) لاسيما أن المخادعين كثر، والمرائين أكثر، والمتزلّفين الذين طغوا وطفوا على السطح مثل بثور وتقيحات على وجه الوطن/ الهوية المضببة، كل هذا ينعكس في أعماق الشاب ليظهر على شكل هواجس وأفكار تصدم المرأة (الحبيبة) التي تقلل دائما من هواجس الحبيب ومخاوفه ورهبته الدائمة، من خلال دعوته إلى كتابة القصص كما كان يفعل ويكتب لها كل ما هو جميل ورائق، كدليل على استقرار الذات، حتى تصل الأمور الى درجة اليأس المطبق.الظلام يسود والمئذنة تتعرض لخطر داهم، لا تكفي مخاوف الشاب، ولا ذراعيه ولا فكره، ولا يأسه، ولا استنجاده بحبيبته، ولا حتى استذكاراته الجميلة المفعمة بالسكينة والسلام، إنه خوف مبرر تماما، كونه مستمَدا من وقائع تحدث أمام العين، يتفحصها قلب سليم، وعقل يفهم خفايا وبواطن ما يضمره الآخرون، وثمة سطوة التأريخ بعيد أم قريب، منظور أم ساحق، دماء وحروب ومجاعات تتوالد على أيدي الطغاة، ونهارات دموية، وليال مسكونة بالهلع، قديما وحاضرا، استمرارا لمسلسل الضياع، لا تجدي معه دعوات الحبية وتفاؤلها، ولكن دوامة اليأس تساعد على ضياع المئذنة وكنوزها، هكذا تردد المرأة الحبيبة، وتدفع - نحو الحفاظ على ما تبقى- حبيبها لكي تثير فيه مبررات الحفاظ على المئذنة الرمز، والسعي لحمايتها من السقوط أو الاستحواذ، مع ذلك براثن اليأس قوية، ومؤشرات التيه بائنة بشدة، وحين يجتمع التيه مع اليأس تضيع الهوية وتسقط المئذنة.قبل أن يحدث ذلك، يسطع صوت التأريخ، القريب جدا أو المنظور، فيأتي دور الأب الخبير الحكيم المفكر، ليعيد المعادلة إلى قوامها الصحيح، في حوارية لاهثة محتدمة بين الأب الميّت وابنه (الشاب الخائف) ليستعيد الحاضر رونقه بوصايا وإرشادات من يعرف المضمر في كل شيء، سجال متواصل محتدم، بين اليأس والأمل، النكوص والإصرار، الفشل والنجاح، لتبدأ الثنائيات بترميم الانهيارات السابقة، إنها إشراقة جديدة بثها الموت في أديم الحياة، يستطيع الأب أن يعيد التوازن والإرادة الى ابنه المبتلى بالضياع، وهي غاية المئذنة التي سعت إليها منذ أن بدأت حوارية الشاب/ المرأة.لنصل في نهاية المطاف إلى ضوء فكري روحي نحن في حاجة قصوى إليه، وأعني بـ نحن (العراقيين)، كما خاطبتهم هذه المسرحية، قائلة لهم بصوت الفن، عليكم أن لا تسمحوا بسقوط المئذنة، ولا التفريط بكنوزنا الفكرية والدينية والمادية، كلها كيانات شاخصة عزيزة علينا وغالية، لأنها تحفظ هويتنا وكرامتنا، لذلك قال الأب لابنه هذا الكلام بوضوح منقطع النظير، بمعنى أوضح، قال لنا الموت، التأريخ، الحكمة، والخبرة العظيمة (لا تفرطوا بالوطن المئذنة).
إشكالية الوجود والتيه
نشر في: 29 يونيو, 2012: 03:58 م